راجع : ج ۷ ص ۳۶۴ (القسم التاسع / الفصل الثاني / بكاءُ السماءِ والأرض) .
۳ / ۲
رُؤيا أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في كَربَلاءَ
۸۹۰.كمال الدين عن ابن عبّاس :كُنتُ مَعَ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام في خُروجِهِ إلى صِفّينَ ، فَلَمّا نَزَلَ بِنينَوى ، وهُوَ شَطُّ الفُراتِ ، قالَ بِأَعلى صَوتِهِ : يَابنَ عَبّاسٍ ، أتَعرِفُ هذَا المَوضِعَ ؟ قالَ : قُلتُ : ما أعرِفُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ : لَو عَرَفتَهُ كَمَعرِفَتي لَم تَكُن تَجوزُهُ حَتّى تَبكِيَ كَبُكائي .
قالَ : فَبَكى طَويلاً حَتَّى اخضَلَّت ۱ لِحيَتُهُ ، وسالَتِ الدُّموعُ عَلى صَدرِهِ ، وبَكَينا مَعَهُ ، وهُوَ يَقولُ : أوهِ أوهِ ۲ ! ما لي ولِالِ أبي سُفيانَ ؟ ! ما لي ولِالِ حَربٍ ، حِزبِ الشَّيطانِ ، وأولِياءِ الكُفرِ ؟ ! صَبرا يا أبا عَبدِ اللّهِ ؛ فَقَد لَقِيَ أبوكَ مِثلَ الَّذي تَلقى مِنهُم .
ثُمَّ دَعا بِماءٍ ، فَتَوَضَّأَ وُضوءَ الصَّلاةِ ، فَصَلّى ما شاءَ اللّهُ أن يُصَلِّيَ ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحوَ كَلامِهِ الأَوَّلِ ، إلّا أنَّهُ نَعَسَ عِندَ انقِضاءِ صَلاتِهِ ساعَةً ، ثُمَّ انتَبَهَ ، فَقالَ : يَابنَ عَبّاسٍ ! فَقُلتُ : ها أنَا ذا .
فَقالَ : ألا اُخبِرُكَ بِما رَأَيتُ في مَنامي آنِفا عِندَ رَقدَتي ؟ فَقُلتُ : نامَت عَيناكَ ، ورَأَيتَ خَيرا يا أميرَ المُؤمِنينَ .
قالَ : رَأَيتُ كَأَنّي بِرِجالٍ بيضٍ قَد نَزَلوا مِنَ السَّماءِ ، مَعَهُم أعلامٌ بيضٌ ، قَد تَقَلَّدوا سُيوفَهُم ، وهِيَ بيضٌ تَلمَعُ ، وقَد خَطّوا حَولَ هذِهِ الأَرضِ خَطَّةً ، ثُمَّ رَأَيتُ هذِهِ النَّخيلَ قَد ضَرَبَت بِأَغصانِها إلَى الأَرضِ ، فَرَأَيتُها تَضطَرِبُ بِدَمٍ عَبيطٍ ۳ ، وكَأَنّي بِالحُسَينِ نَجلي وفَرخي ومُضغَتي ومُخّي قَد غَرِقَ فيهِ ، يَستَغيثُ فَلا يُغاثُ ، وكَأَنَّ الرِّجالَ البيضَ قَد نَزَلوا مِنَ السَّماءِ يُنادونَهُ ، ويَقولونَ : صَبرا آلَ الرَّسولِ ؛ فَإِنَّكُم تُقتَلونَ عَلى أيدي شِرارِ النّاسِ ، وهذِهِ الجَنَّةُ يا أبا عَبدِ اللّهِ إليكَ مُشتاقَةٌ ، ثُمَّ يُعَزّونَني ، ويَقولونَ : يا أبَا الحَسَنِ ، أبشِر ، فَقَد أقَرَّ اللّهُ عَينَكَ بِهِ يَومَ القِيامَةِ ، يَومَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ ، ثُمَّ انتَبَهتُ .
هكَذا وَالَّذي نَفسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ ، لَقَد حَدَّثَنِي الصّادِقُ المُصَدَّقُ أبُو القَاسِمِ صلى الله عليه و آله أنّي سَأَراها في خُروجي إلى أهلِ البَغيِ عَلَينا ، وهذِهِ أرضُ كَربٍ وبَلاءٍ ، يُدفَنُ فيهَا الحُسَينُ وسَبعَةَ عَشَرَ رَجُلاً كُلُّهُم مِن وُلدي ووُلدِ فاطِمَةَ عليهاالسلام ، وأنَّها لَفِي السَّماواتِ مَعروفَةٌ ، تُذكَرُ أرضُ كَربٍ وبَلاءٍ ، كَما تُذكَرُ بُقعَةُ الحَرَمَينِ وبُقعَةُ بَيتِ المَقدِسِ .
ثُمَّ قالَ لي : يَابنَ عَبّاسٍ ، اُطلُب لي حَولَها بَعرَ الظِّباءِ ، فَوَ اللّهِ ، ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ قَطُّ ، وهِيَ مُصفَرَّةٌ ، لَونُها لَونُ الزَّعفَرانِ .
قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَطَلَبتُها ، فَوَجَدتُها مُجتَمِعَةً ، فَنادَيتُهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، قَد أصَبتُها عَلَى الصِّفَةِ الَّتي وَصَفتَها لي .
فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : صَدَقَ اللّهُ ورَسولُهُ . ثُمَّ قامَ عليه السلام يُهَروِلُ إلَيها ، فَحَمَلَها وشَمَّها ، وقالَ : هِيَ هِيَ بِعَينِها ، تَعلَمُ ـ يَابنَ عَبّاسٍ ـ ما هذِهِ الأَبعارُ ؟ هذِهِ قَد شَمَّها عيسَى بنُ مَريَمَ عليه السلام ، وذلِكَ أنَّهُ مَرَّ بِها ومَعَهُ الحَوارِيّونَ فَرَأى هذِهِ الظِّباءَ مُجتَمِعَةً ، فَأَقبَلَت إلَيهِ الظِّباءُ وهِيَ تَبكي ، فَجَلَسَ عيسى عليه السلام وجَلَسَ الحَوارِيّونَ ، فَبَكى وبَكَى الحَوارِيّونَ ، وهُم لا يَدرونَ لِمَ جَلَسَ ولِمَ بَكى .
فَقالوا : يا روحَ اللّهِ وكَلِمَتَهُ ، ما يُبكيكَ ؟ ! قالَ : أتَعلَمونَ أيَّ أرضٍ هذِهِ ؟ قالوا : لا .
قالَ : هذِهِ أرضٌ يُقتَلُ فيها فَرخُ الرَّسولِ أحمَدَ ، وفَرخُ الحُرَّةِ الطّاهِرَةِ البَتولِ شَبيهَةِ اُمّي ، ويُلحَدُ فيها ، وهِيَ أطيَبُ مِنَ المِسكِ ، وهِيَ طينَةُ الفَرخِ المُستَشهَدِ ، وهكَذا تَكونُ طينَةُ الأَنبِياءِ وأولادِ الأَنبِياءِ ، فَهذِهِ الظِّباءُ تُكَلِّمُني وتَقولُ : إنَّها تَرعى في هذِهِ الأَرضِ شَوقا إلى تُربَةِ الفَرخِ المُبارَكِ ، وزَعَمَت أنَّها آمِنَةٌ في هذِهِ الأَرضِ .
ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إلى هذِهِ الصِّيرانِ ، فَشَمَّها ، فَقالَ : هذِهِ بَعرُ الظِّباءِ عَلى هذَا الطّيبِ ؛ لِمَكانِ حَشيشِها ۴ ، اللّهُمَّ أبقِها أبَدا حَتّى يَشُمَّها أبوهُ ، فَتَكونَ لَهُ عَزاءً وسَلوَةً ، قالَ : فَبَقِيَت إلى يَومِ النّاسِ هذا ، وقَدِ اصفَرَّت لِطولِ زَمَنِها ، هذِهِ أرضُ كَربٍ وبَلاءٍ .
وقالَ بِأَعلى صَوتِهِ : يا رَبَّ عيسَى بنِ مَريَمَ ، لا تُبارِك في قَتَلَتِهِ ، وَالحامِلِ عَلَيهِ ، وَالمُعينِ عَلَيهِ ، وَالخاذِلِ لَهُ ، ثُمَّ بَكى بُكاءً طَويلاً ، وبَكَينا مَعَهُ حَتّى سَقَطَ لِوَجهِهِ وغُشِيَ عَلَيهِ طَويلاً ، ثُمَّ أفاقَ ، فَأَخَذَ البَعرَ ، فَصَرَّها في رِدائِهِ ، وأمَرَني أن أصُرَّها كَذلِكَ .
ثُمَّ قالَ : يَابنَ عَبّاسٍ ، إذا رَأَيتَها تَنفَجِرُ دَما عَبيطا فَاعلَم أنَّ أبا عَبدِ اللّهِ قَد قُتِلَ بِها ودُفِنَ بِها .
قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَوَاللّهِ ، لَقَد كُنتُ أحفَظُها أكثَرَ مِن حِفظي لِبَعضِ مَا افتَرَضَ اللّهُ عَلَيَّ ، وأنَا لا أحُلُّها مِن طَرَفِ كُمّي ، فَبَينا أنَا فِي البَيتِ نائِمٌ إذِ انتَبَهتُ ، فَإِذا هِيَ تَسيلُ دَما عَبيطا ، وكانَ كُمّي قَدِ امتَلَأَت دَما عَبيطا ، فَجَلَستُ وأنَا أبكي وقُلتُ : قُتِلَ وَاللّهِ الحُسَينُ عليه السلام ! وَاللّهِ ما كَذَبَني عَلِيٌّ قَطُّ في حَديثٍ حَدَّثَني ، ولا أخبَرَني بِشَيءٍ قَطُّ أنَّهُ يَكونُ إلّا كانَ كَذلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كانَ يُخبِرُهُ بِأَشياءَ لا يُخبِرُ بِها غَيرَهُ ، فَفَزِعتُ وخَرَجتُ ، وذلِكَ كانَ عِندَ الفَجرِ ، فَرَأَيتُ ـ وَاللّهِ ـ المَدينَةَ كَأَنَّها ضَبابٌ ، لا يَستَبينُ فيها أثَرُ عَينٍ ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمسُ ، فَرَأَيتُ كَأَنَّها كاسِفَةٌ ، ورَأَيتُ كَأَنَّ حيطانَ المَدينَةِ عَلَيها دَمٌ عَبيطٌ ، فَجَلَستُ وأنَا باكٍ ، وقُلتُ : قَد قُتِلَ وَاللّهِ الحُسَينُ عليه السلام ، فَسَمِعتُ صَوتا مِن ناحِيَةِ البَيتِ ، وهُوَ يَقولُ :
اِصبِروا آلَ الرَّسولِقُتِلَ الفَرخُ النُّحولُ ۵
نَزَلَ الرّوحُ الأَمينُبِبُكاءٍ وعَويلٍ
ثُمَّ بَكى بِأَعلى صَوتِهِ وبَكَيتُ ، وأثبَتُّ عِندي تِلكَ السّاعَةَ ، وكانَ شَهرُ المُحَرَّمِ ويَومَ عاشوراءَ لِعَشرٍ مَضَينَ مِنهُ ، فَوَجَدتُهُ يَومَ وَرَدَ عَلَينا خَبَرُهُ وتاريخُهُ كَذلِكَ ، فَحَدَّثتُ بِهذَا الحَديثِ اُولئِكَ الَّذينَ كانوا مَعَهُ ، فَقالوا : وَاللّهِ ، لَقَد سَمِعنا ما سَمِعتَ ونَحنُ فِي المَعرَكَةِ ، لا نَدري ما هُوَ ، فَكُنّا نَرى أنَّهُ الخِضرُ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ وعَلَى الحُسَينِ . ۶
1.اخْضَلَّ الشيءُ : أي ابْتَلَّ (الصحاح : ج ۴ ص ۱۶۸۵ «خضل») .
2.أوْهِ : كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجّع ، وهي ساكنة الواو مكسورة الهاء ، وربّما قلبوا الواو ألِفا ، فقالوا : آه (النهاية : ج ۱ ص ۸۲ «أوْهِ») .
3.العَبيطُ من الدم : الخالصُ الطريُّ (الصحاح : ج ۳ ص ۱۱۴۲ «عبط») .
4.في الطبعة المعتمدة : «على هذه الطيب المكان حشيشها» ، والتصويب من طبعة بيروت ـ مؤسّسة الأعلمي .
5.نَحلَ جسمه نُحولاً : ذهب من مرض أو سفر فهو ، ناحلٌ ونَحيل (القاموس المحيط : ج ۴ ص ۵۵ «نحل») .
6.كمال الدين : ص ۵۳۲ ح ۱ ، الأمالي للصدوق : ص ۶۹۴ ح ۹۵۱ ، الخرائج والجرائح : ج ۳ ص ۱۱۴۴ ح ۵۶ نحوه ، بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۲۵۲ ح ۲۰ .