فَقَتَلَ سَبعينَ مُبارِزاً، ثُمَّ رَجَعَ إلى أبيهِ وقَد أصابَتهُ جِراحاتٌ، فَقالَ: يا أبَه العَطَشُ، فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : يَسقيكَ جَدُّكَ، فَكَرَّ أيضاً عَلَيهِم وهُوَ يَقولُ:
الحَربُ قَد بانَت لَها حَقائِقُوظَهَرَت مِن بَعدِها مَصادِقُ
وَاللَّهِ رَبِّ العَرشِ لا نُفارِقُجُموعَكُم أو تُغمَدُ البَوارِقُ۱
فَطَعَنَهُ مُرَّةُ بنُ مُنقِذٍ العَبدِيُّ عَلى ظَهرِهِ غَدراً، فَضَرَبوهُ بِالسَّيفِ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام: عَلَى الدُّنيا بَعدَكَ العَفا، وضَمَّهُ إلى صَدرِهِ وأتى بِهِ إلى بابِ الفُسطاطِ، فَصارَت اُمُّهُ شَهرَبانَوَيهِ وَلهى ، تَنظُرُ إلَيهِ ولا تَتَكَلَّمُ، فَبَقِيَ الحُسَينُ عليه السلام وَحيداً۲ .۳
۹۹۷.مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : فَتَقَدَّمَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ - واُمُّهُ لَيلى بِنتُ أبي مُرَّةَ بنِ عُروَةَ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ - وهُوَ يَومَئِذٍ ابنُ ثمانَ عَشرَةَ سَنَةً، فَلَمّا رَآهُ الحُسَينُ عليه السلام رَفَعَ شَيبَتَهُ نَحوَ السَّماءِ، وقالَ :
اللَّهُمَّ اشهَد عَلى هؤُلاءِ القَومِ، فَقَد بَرَزَ إلَيهِم غُلامٌ أشبَهُ النّاسِ خَلقاً وخُلُقاً ومَنطِقاً بِرَسولِكَ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله، كُنّا إذَا اشتَقنا إلى وَجهِ رَسولِكَ نَظَرنا إلى وَجهِهِ، اللَّهُمَّ فَامنَعهُم بَرَكاتِ الأَرضِ، وإن مَنَعتَهُم فَفَرِّقهُم تَفريقاً، ومَزِّقهُم تَمزيقاً، وَاجعَلهُم طَرائِقَ قِدَداً ، ولا تُرضِ الوُلاةَ عَنهُم أبَداً؛ فَإِنَّهُم دَعَونا لِيَنصُرونا ثُمَّ عَدَوا عَلَينا يُقاتِلُونّا ويَقتُلُونّا.
ثُمَّ صاحَ الحُسَينُ عليه السلام بِعُمَرَ بنِ سَعدٍ: ما لَكَ؟! قَطَعَ اللَّهُ رَحِمَكَ، ولا بارَكَ لَكَ في أمرِكَ، وسَلَّطَ عَلَيكَ مَن يَذبَحُكَ عَلى فِراشِكَ، كَما قَطَعتَ رَحِمي ، ولَم تَحفَظ قَرابَتي مِن رَسولِ اللَّهِ! ثُمَّ رَفَعَ عليه السلام صَوتَهُ وقَرَأَ: «إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .۴
ثُمَّ حَمَلَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ وهُوَ يَقولُ :
أنَا عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ بنِ عَلِيّنَحنُ وبَيتِ اللَّهِ أولى بِالنَّبِيّ
وَاللَّهِ لا يَحكُمُ فينَا ابنُ الدَّعِيّأطعَنُكُم بِالرُّمحِ حَتّى يَنثَني
أضرِبُكُم بِالسَّيفِ حَتّى يَلتَويضَربَ غُلامٍ هاشِمِيٍّ عَلَوِيّ
فَلَم يَزَل يُقاتِلُ حَتّى ضَجَّ أهلُ الكوفَةِ لِكَثرَةِ مَن قَتَلَ مِنهُم، حَتّى أنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ عَلى عَطَشِهِ قَتَلَ مِئَةً وعِشرينَ رَجُلاً، ثُمَّ رَجَعَ إلى أبيهِ وقَد أصابَتهُ جِراحاتٌ كَثيرَةٌ، فَقالَ: يا أبَه! العَطَشُ قَد قَتَلَني، وثِقلُ الحَديدِ قَد أجهَدَني، فَهَل إلى شَربَةٍ مِن ماءٍ سَبيلٌ ، أتَقَوّى بِها عَلَى الأَعداءِ؟
فَبَكَى الحُسَينُ عليه السلام وقالَ: يا بُنَيَّ! عَزَّ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى عَلِيٍّ وعَلى أبيكَ أن تَدعُوَهُم فَلا يُجيبونَكَ، وتَستَغيثَ بِهِم فَلا يُغيثونَكَ، يا بُنَيَّ! هاتِ لِسانَكَ ، فَأَخَذَ لِسانَهُ فَمَصَّهُ، ودَفَعَ إلَيهِ خاتَمَهُ، وقالَ لَهُ: خُذ هذَا الخاتَمَ في فيكَ، وَارجِع إلى قِتالِ عَدُوِّكَ، فَإِنّي أرجو أن لا تُمسِيَ حَتّى يَسقِيَكَ جَدُّكَ بِكَأسِهِ الأَوفى شَربَةً لا تَظمَأُ بَعدَها أبَداً. فَرَجَعَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام إلَى القِتالِ ، وحَمَلَ وهُوَ يَقولُ :
الحَربُ قَد بانَت لَها حَقائِقُوظَهَرَت مِن بَعدِها مَصادِقُ
وَاللَّهِ رَبِّ العَرشِ لا نُفارِقُجُموعَكُم أو تُغمَدُ البَوارِقُ
وجَعَلَ يُقاتِلُ حَتّى قَتَلَ تَمامَ المِئَتَينِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ مُنقِذُ بنُ مُرَّةَ العَبدِيُّ عَلى مَفرِقِ رَأسِهِ ضَربَةً صَرَعَهُ فيها، وضَرَبَهُ النّاسُ بِأَسيافِهِم، فَاعتَنَقَ الفَرَسُ فَحَمَلَهُ الفَرَسُ إلى عَسكَرِ عَدُوِّهِ، فَقَطَّعوهُ بِأَسيافِهِم إرباً إرباً، فَلَمّا بَلَغَت روحُهُ التَّراقِيَ ، نادى بِأَعلى صَوتِهِ: يا أبَتاه! هذا جَدّي رَسولُ اللَّهِ، قَد سَقاني بِكَأسِهِ الأَوفى شَربَةً لا أظمَأُ بَعدَها أبَداً، وهُوَ يَقولُ لَكَ: العَجَلَ! فَإِنَّ لَكَ كَأساً مَذخورَةً.
فَصاحَ الحُسَينُ عليه السلام: قَتَلَ اللَّهُ قَوماً قَتَلوكَ! يا بُنَيَّ، ما أجرَأَهُم عَلَى اللَّهِ ، وعَلَىانتِهاكِ حُرمَةِ رَسولِ اللَّهِ! عَلَى الدُّنيا بَعدَكَ العَفا.
قالَ حُمَيدُ بنُ مُسلِمٍ: لَكَأَنّي أنظُرُ إلَى امرَأَةٍ خَرَجَت مُسرِعَةً كَأَنَّهَا الشَّمسُ طالِعَةً، تُنادي بِالوَيلِ وَالثُّبورِ، تَصيحُ: وَاحَبيباه! وَاثَمَرَةَ فُؤاداه! وانورَ عَيناه! فَسَأَلتُ عَنها فَقيلَ: هِيَ زَينَبُ بِنتُ عَلِيٍّ.
ثُمَّ جاءَت حَتَّى انكَبَّت عَلَيهِ، فَجاءَ إلَيهَا الحُسَينُ عليه السلام حَتّى أخَذَ بِيَدِها ورَدَّها إلَى الفُسطاطِ . ثُمَّ أقبَلَ مَعَ فِتيانِهِ إلَى ابنِهِ، فَقالَ: اِحمِلوا أخاكُم ، فَحَمَلوهُ مِن مَصرَعِهِ حَتّى وَضَعوهُ عِندَ
1.البَوارِقُ: لَمعَان السُّيوف (مجمع البحرين: ج ۱ ص ۱۴۴ «برق») .
2.ذكرت روايات اُخرى أنّ اُمّ عليّ الأكبر تُدعى «ليلى» . كما أنّ ما دلّ على أنّ عليّاً الأكبر هو أوّل شهيد من أهل البيت عليهم السلام ، فهو يعني أنّ العبّاس وإخوته كانوا أحياءً عند شهادة عليّ الأكبر .
3.المناقب لابن شهرآشوب: ج ۴ ص ۱۰۹ .
4.آل عمران: ۳۳ و۳۴ .