قال : ولمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبّته ، عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى : هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللَّه؟ هل من موحّدٍ يخاف اللَّه فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو اللَّه بإغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند اللَّه في إعانتنا؟ .
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب : ناوليني ولدي الصغير حتّى اُودّعه ، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه ۱حرملة بن الكاهل بسهم ، فوقع في نحره فذبحه ، فقال لزينب : خذيه . ثمّ تلقّى الدم بكفّيه حتّى امتلأتا ، ورمى بالدم نحو السماء وقال : هوّن عليَّ ما نزل بي ، إنّه بعين اللَّه .
قال الباقر عليه السلام : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض .
وروي من طرق اُخرى ، وهي أقرب إلى العقل؛ لأنّ الحال ما كان وقت توديع للصبيّ؛ لاشتغالهم بالحرب والقتل ، وإنّما زينب اُخته عليها السلام أخرجت الصبيّ وقالت : يا أخي ، هذا ولدك له ثلاثة أيّام ما ذاق الماء ، فاطلب له شربة ماء ، فأخذه على يده وقال : يا قوم ، قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي ، وقد بقي هذا الطفل يتلظّى عطشاً ، فاسقوه شربةً من الماء ، فبينما هو يخاطبهم إذ رماه رجل منهم بسهم فذبحه . فدعا عليهم بنحو ما صنع بهم المختار وغيره .
۲قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين عليه السلام ، فركب المسنّاة يريد الفرات ، والعبّاس أخوه بين يديه ، فاعترضتهما خيل ابن سعد ، فرمى رجل من بني دارم الحسين عليه السلام بسهمٍ فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع (صلوات اللَّه عليه) السهم وبسط يده تحت حنكه حتّى امتلأت راحتاه من الدم ، ثمّ رمى به وقال : اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك .
ثمّ اقتطعوا العبّاس عنه ، وأحاطوا به من كلّ جانب ومكان ، حتّى قتلوه (قدّس اللَّه روحه) فبكى الحسين عليه السلام بكاءً شديداً . وفي ذلك يقول الشاعر :
أَحقُّ الناسُ أَن يُبكى عَلَيهفَتىً أَبكى الحُسَينَ بِكَربَلاء
أَخوه وابنُ والدِهِ عليٍأبو الفَضل المضرَّجِ بالدِماء
وَمَن واساه لا يَثنيه شَيءٌوجادَ لَه على عَطَشٍ بِماء
قال الراوي : ثمّ إنّ الحسين عليه السلام دعا الناس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه ، حتّى قتل مقتلة عظيمة ، وهو في ذلك يقول :
القَتلُ أَولى مِن ركوبِ العارِوالعارُ أولى مِن دخولِ النار
قال بعض الرواة : واللَّه ، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولدُهُ وأهلُ بيته وأصحابُهُ أربط جأشاً منه ، وأنّ الرجال كانت لتشدّ عليه فيشدّ عليها ۳بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم .
قال الراوي : ولم يزل يقاتلهم حتّى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم : ويحكم! يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون . قال : فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟
قال : أقول : أنا الذي اُقتاتلكم وتقاتلوني ، والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا أعتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً . فقال شمر : لك ذلك يا بن فاطمة .
وقصدوه بالحرب ، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه ، وهو مع ذلك ۴يطلب شربة من ماء فلا يجد ، حتّى أصابه اثنتان وسبعون جراحة .
فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر ، فوقع على جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح الدمَ عن جبهته ، فأتاه سهمٌ مسمومٌ له ثلاثُ شعبٍ ، فوقع على قلبه ، فقال عليه السلام : بسم اللَّه وباللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صلى اللّه عليه و آله ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللّهمّ إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابنُ بنت نبيّ غيره .