189
الشريف المرتضى و المعتزلة

أمّا القرآنية فهي قابلة للتأويل كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأمّا الروائية فهي في الحقيقة أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، ولا يمكن الاستناد إليها لتأييد نظرية من النظريات، كما هو المبنى المعروف للمرتضى.

وأمّا الأدلّة العقلية فالظاهر أنّه وجدها ضعيفة أيضاً وعاجزة عن دعم النظرية، رغم أنّنا لم نعثر على موضعٍ أشار فيه المرتضى إلى تلك الأدلّة.

۲. تقدّم أنّ الشيخ المفيد قام إلى حدّ كبير بإفراغ النظرية الأولى من محتواها، فقد أنكر كلّ الثمرات التي كان يمكن أن تترتّب عليها، بذريعة إنّها تؤدّي إلى التناسخ المرفوض، وبذلك وجد المرتضى أنّ الإيمان بتلك النظرية لا تنجم عنه فوائد كثيرة ذات بال، وكان هذا ممهّداً نفسياً لرفض النظرية. ۱

۳. وجود إشكالات عقلية متعدّدة على النظرية الأولى، أوردها المرتضى كإشكالاتٍ على نظرية معمر - أحد متكلّمي المعتزلة - الذي كان يؤمن أيضاً بتلك النظرية.

ومن هنا، فإنّ عدم قيام دليل مقنع على النظرية الأولى، بل وجود إشكالات جادّة عليها، وانعدام الكثير من ثمراتها من جهة، وقيام أدلّة عقلية مقنعة على النظرية الثانية، وترتّب ثمرات مهمّة عليها - والتي سوف تأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى - من جهة أخرى، كلّ ذلك حدا بالشريف المرتضى إلى أن يرفض النظرية الأولى، ويتّجه نحو الإيمان بالنظرية الثانية مغيّراً بذلك اتّجاه بوصلة النظرية الكلاسيكية عند الإمامية بفضل ما كان يملكه من ثقل معنوي وعلمي عندهم، فقد صارت النظرية الثانية هي النظرية السائدة عند الإمامية لعدّة قرون۲.

ويبدو أنّ آخر المحاولات التي بذلت لثني المرتضى عن النظرية الثانية، هي المحاولات التي بذلها أحد تلامذته النابهين المعروف بسلّار، حيث أورد عدّة إشكالات من خلال أسئلة وجّهها إلى المرتضى عُرفت بالمسائل السلّارية، حيث ركّز

1.. المرتضی، الذخیرة، ص۱۱۵.

2.. الطوسي، الاقتصاد، ص۶۶؛ الحلبي، تقريب المعارف، ص۸۳؛ المقري النيسابوري، التعليق، ص۱۰۸؛ ابن نوبخت، الياقوت، ص۵۴؛ الحُمُّصي، المنقذ من التقليد، ج۱، ص۲۹۱.


الشريف المرتضى و المعتزلة
188

الجبّائيَّين التي أكّدت على أنّ حقيقة الإنسان لا تتجاوز هذا الجسم المادّي ككلّ، فقالوا: إنّ الإنسان هو هذه الجملة المُشاهَدة، أي مجموع هذا الجسد المُشاهَد كمجموع. وهذا المجموع قد تطرأ عليه الزيادة والنقيصة من خلال البدانة والنحافة، أو من خلال قطع عضو منه كاليد أو الرجل، إلّا أنّ هذا لا يزيد ولا ينقص من حقيقة الإنسان، فهذه الحقيقة لا تمثّلها الأجزاء بتفاصيلها، وإنّما يمثّلها مجموع الأجزاء ككلّ، إذن لقد وقفت هذه النظرية الجديدة على النقيض من النظرية السابقة، حيث أعطت هذه النظرية الجانب المادّي للإنسان قيمة كاملة لا نقص فيها، وصار الإنسان لا يعدو هذا الجسم المادّي المُشاهَد.

وقد أخذت هذه النظرية تفرض نفسها - بفضل ما للجبّائيَّين من ثقل معنوي وعلمي - على الساحة العلمية، حتى ألّف الإمامية المؤمنون بالنظرية الأولى رسائلَ وكتباً للردّ على خصوص هذه النظرية؛ حيث ألّف كلٌّ من أبي محمّد النوبختي، وأبي الجيش البلخي، وأبي يعلى الجعفري رسائل تحمل هذا العنوان: الإنسان غير هذه الجملة، أو الفعّال غير هذه الجملة۱. إنّ هذا العنوان صريح في أنّه يحاول نقد نظرية الجبّائيَّين، وأنّ تأليف عدّة رسائل أو كتب حول نفس موضوع وفي فترات زمنية مختلفة يدلّ على مدى أهميّة هذه النظرية.

إذن لقد جاء الشريف المرتضى في عصرٍ هيمنت عليه نظريتان رئيستان حول الإنسان: نظرية لاقت ترحيباً من قبل متكلّمي الإمامية لمدّة عشرات السنين، وأخرى رفضوها رفضاً باتّاً، إلّا أنّها كان لها مؤيّدوها من خارج التيّار الإمامي، وبالخصوص من جانب التيّار الاعتزالي. لكن المرتضى الذي أراد تأسيس مدرسة فكرية كلامية قائمة على أساس علمي وعقلي رصين، أخذ يُحكم أُسسه ومبانيه التي تبنّاها، غيرَ آبِهٍ بكل المعارضات والإشكالات التي قد تورَد عليه من داخل البيت الشيعي، فهو قد واجه الأمور التالية:

۱. الأدلّة النقلية التي أقيمت لنصرة النظرية الأولى لکنّه استطاع التغلّب علیها،

1.. النجاشي، رجال النجاشي، ص۶۳، ۴۰۴، ۴۲۲.

  • نام منبع :
    الشريف المرتضى و المعتزلة
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    01/01/1399
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 3958
صفحه از 275
پرینت  ارسال به