255
موسوعة معارف الکتاب و السنّة - المجلّد الثّالث

فَاعتَبِروا بِحالِ وَلَدِ إسماعيلَ ، وبَني إسحاقَ ، وبَني إسرائيلَ عليهم السلام ؛ فَما أشَدَّ اعتِدالَ الأَحوالِ ، وأقرَبَ اشتِباهَ الأَمثالِ !
تَأَمَّلوا أمرَهُم في حالِ تَشَتُّتِهِم وتَفَرُّقِهِم ، لَيالِيَ كانَتِ الأَكاسِرَةُ وَالقَياصِرَةُ أربابا لَهُم ، يَحتازونَهُم عَن ريفِ الآفاقِ وبَحرِ العِراقِ وخُضرَةِ الدُّنيا ، إلى مَنابِتِ الشّيحِ، ومَهافي الرّيحِ ۱ ، ونَكَدِ المَعاشِ ، فَتَرَكوهُم عالَةً مَساكينَ ، إخوانَ دَبَرٍ ووَبَرٍ ۲ ، أذَلَّ الاُمَمِ دارا ، وأجدَبَهُم قَرارا ، لا يَأوونَ إلى جَناحِ دَعوَةٍ يَعتَصِمونَ بِها ، ولا إلى ظِلِّ اُلفَةٍ يَعتَمِدونَ عَلى عِزِّها ، فَالأَحوالُ مُضطَرِبَةٌ ، وَالأَيدي مُختَلِفَةٌ ، وَالكَثرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ ، في بَلاءِ أزلٍ ۳ ، وأطباقِ جَهلٍ؛ مِن بَناتٍ مَوءودَةٍ ، وأصنامٍ مَعبودَةٍ ، وأرحامٍ مَقطوعَةٍ ، وغاراتٍ مَشنونَةٍ .
فَانظُروا إلى مَواقِعِ نِعَمِ اللّهِ عَلَيهِم حينَ بَعَثَ إلَيهِم رَسولاً ، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طاعَتَهُم ، وجَمَعَ عَلى دَعوَتِهِ اُلفَتَهُم ، كَيفَ نَشَرَتِ النِّعمَةُ عَلَيهِم جَناحَ كَرامَتِها ، وأسالَت لَهُم جَداوِلَ نَعيمِها ، وَالتَفَّتِ المِلَّةُ بِهِم في عَوائِدِ بَرَكَتِها ، فَأَصبَحوا في نِعمَتِها غَرِقينَ ، وفي خُضرَةِ عَيشِها فَكِهينَ ، قَد تَرَبَّعَتِ الاُمورُ بِهِم في ظِلِّ سُلطانٍ قاهِرٍ ، وآوَتهُمُ الحالُ إلى كَنَفِ عِزٍّ غالِبٍ ، وتَعَطَّفَتِ الاُمورُ عَلَيهِم في ذُرى مُلكٍ ثابِتٍ ، فَهُم حُكّامٌ عَلَى العالَمينَ ، ومُلوكٌ في أطرافِ الأَرَضينَ ، يَملِكونَ الاُمورَ عَلى مَن كانَ يَملِكُها عَلَيهِم ، ويُمضونَ الأَحكامَ فيمَن كانَ يُمضيها فيهِم ،

1.قال ابن أبي الحديد في شرح بعض هذه المفردات : الرِّيف : الأرض ذات الخِصب والزرع . وبحر العراق : دجلة والفرات . ومنابت الشِّيح : أرض العرب ، والشِّيح نبت معروف . ومهافي الريح : المواضع الّتي تهفو فيها ؛ أي تهبّ ، وهي الفيافي والصحراء (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۱۳ ص ۱۷۳) .

2.الدَّبر : الجرح الّذي يكون في ظهر الدابّة . وقيل : هو أن يقرح خفّ البعير . والوَبَر : صوف الإبل (لسان العرب : ج ۴ ص ۲۷۴ «دبر» وج ۵ ص ۲۷۱ «وبر») . يريد : أنّهم ذلّوا وافتقروا وصاروا رعاةً للإبل .

3.الأزْل : الشدَّة والضِّيق (النهاية : ج ۱ ص ۴۶ «أزل») .


موسوعة معارف الکتاب و السنّة - المجلّد الثّالث
254

وَاجتَنِبوا كُلَّ أمرٍ كَسَرَ فِقرَتَهُم ۱ ، وأوهَنَ مُنَّتَهُم ۲ ؛ مِن تَضاغُنِ القُلوبِ ، وتَشاحُنِ الصُّدورِ ، وتَدابُرِ النُّفوسِ ، وتَخاذُلِ الأَيدي .
وتَدَبَّروا أحوالَ الماضينَ مِنَ المُؤمِنينَ قَبلَكُم ، كَيفَ كانوا في حالِ التَّمحيصِ وَالبَلاءِ ، أ لَم يَكونوا أثقَلَ الخَلائِقِ أعباءً؟ وأجهَدَ العِبادِ بَلاءً؟ وأضيَقَ أهلِ الدُّنيا حالاً؟ اِتَّخَذَتهُمُ الفَراعِنَةُ عَبيدا ، فَساموهُم سوءَ العَذابِ ، وجَرَّعوهُمُ المُرارَ ، فَلَم تَبرَحِ الحالُ بِهِم في ذُلِّ الهَلَكَةِ ، وقَهرِ الغَلَبَةِ ، لا يَجِدونَ حيلَةً في امتِناعٍ ، ولا سَبيلاً إلى دِفاعٍ ، حَتّى إذا رَأَى اللّهُ سُبحانَهُ جِدَّ الصَّبرِ مِنهُم عَلَى الأَذى في مَحَبَّتِهِ ، وَالِاحتِمالَ لِلمَكروهِ مِن خَوفِهِ ، جَعَلَ لَهُم مِن مَضايِقِ البَلاءِ فَرَجا ، فَأَبدَلَهُمُ العِزَّ مَكانَ الذُّلِّ ، وَالأَمنَ مَكانَ الخَوفِ ، فَصاروا مُلوكا حُكّاما ، وأئِمَّةً أعلاما ، وقَد بَلَغَتِ الكَرامَةُ مِنَ اللّهِ لَهُم ما لَم تَذهَبِ الآمالُ إلَيهِ بِهِم .
فَانظُروا كَيفَ كانوا حَيثُ كانَتِ الأَملاءُ ۳ مُجتَمِعَةً ، وَالأَهواءُ مُؤتَلِفَةً ، وَالقُلوبُ مُعتَدِلَةً ، وَالأَيدي مُتَرادِفَةً ، وَالسُّيوفُ مُتَناصِرَةً ، وَالبَصائِرُ نافِذَةً ، وَالعَزائِمُ واحِدَةً . أ لَم يَكونوا أربابا في أقطارِ الأَرَضينَ ، ومُلوكا عَلى رِقابِ العالَمينَ؟ فَانظُروا إلى ما صاروا إلَيهِ في آخِرِ اُمورِهِم ، حينَ وَقَعَتِ الفُرقَةُ ، وتَشَتَّتَتِ الاُلفَةُ ، وَاختَلَفَتِ الكَلِمَةُ وَالأَفئِدَةُ ، وتَشَعَّبوا مُختَلِفينَ ، وتَفَرَّقوا مُتَحارِبينَ ، قَد خَلَعَ اللّهُ عَنهُم لِباسَ كَرامَتِهِ ، وسَلَبَهُم غَضَارَةَ ۴ نِعمَتِهِ ، وبَقِيَ قَصَصُ أخبارِهِم فيكُم عِبَرا لِلمُعتَبِرينَ .

1.الفِقْرة : واحدة فِقَر الظهر ، ويقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة : قد كُسرت فِقَرته (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۱۳ ص ۱۶۸) .

2.المُنَّة : القوّة (الصحاح : ج ۶ ص ۲۲۰۷ «منن») .

3.الأملاء : جمع مَلَأ ؛ وهي الجماعة (انظر : لسان العرب : ج ۱ ص ۱۵۹ «ملأ») .

4.الغَضارة : طِيب العَيش . تقول : إنّهم لَفي غضارةٍ من العيش ؛ أي في خِصْبٍ وخير (الصحاح : ج ۲ ص ۷۷۰ «غضر»).

  • نام منبع :
    موسوعة معارف الکتاب و السنّة - المجلّد الثّالث
    سایر پدیدآورندگان :
    رسول الموسوي، السید رضا الحسيني، عبدالهادي مسعودي، أحمد الديلمي، محمّد رضا محسني نيا، محمّد رضا وهّابي
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 5951
صفحه از 575
پرینت  ارسال به