فلمّا جلس معاوية للناس ، تكلّم فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقّها ، وما أمر اللّه به من طاعة ولاة الأمر ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة ، وعرّض ببيعته ، فعارضه الضحّاك ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
يا أمير المؤمنين ، إنّه لابدّ للناس من والٍ بعدك ، وقد بلونا الجماعة والاُلفة فوجدناهما أحقن للدماء ، وأصلح للدهماء ۱ ، وآمن للسبل ، وخيرا في العاقبة ، والأيّام عوج رواجع ، واللّه كلّ يوم هو في شأن ، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت ، وهو من أفضلنا علما وحلما ، وأبعدنا رأيا ، فولّه عهدك ، واجعله لنا علما بعدك ، ومفزعا نلجأ إليه ، ونسكن في ظلّه .
وتكلّم عمرو بن سعيد الأشدق بنحوٍ من ذلك . ثمّ قام يزيد بن المقنع العذري ، فقال :
هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومَن أبى فهذا ـ وأشار إلى سيفه ـ . فقال معاوية : اجلس فأنت سيّد الخطباء . وتكلّم من حضر من الوفود .
فقال معاوية للأحنف : ما تقول يا أبا بحر ؟ فقال :
نخافكم إن صدقنا ، ونخاف اللّه إن كذبنا ، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره ، وسرِّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه للّه تعالى وللاُمّة رضىً فلا تشاور فيه ، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة ، وإنّما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا .
وقام رجلٌ من أهل الشام فقال :
ما ندري ما تقول هذه المعديّة العراقيّة ، وإنّما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف .
فتفرّق الناس يحكون قول الأحنف . وكان معاوية يعطي المقارب ويُداري المباعد ويلطف به ، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعه . ۲