بِمَيسورٍ مِنَ القَولِ ، قَد وَسِعَ النّاسَ مِنهُ خُلُقُهُ ، وصارَ لَهُم أبا رَحيما ، وصاروا عِندَهُ فِي الحَقِّ سَواءً .
مَجلِسُهُ مَجلِسُ حِلمٍ وحَياءٍ وصِدقٍ وأمانَةٍ ، لا تُرفَعُ فيهِ الأَصواتُ ، ولا تُؤبَنُ ۱ فيهِ الحُرَمُ ، ولا تُنثى ۲ فَلَتاتُهُ ، مُتَعادِلينَ ، مُتَواصِلينَ فيهِ بِالتَّقوى ، مُتَواضِعينَ ، يُوَقِّرونَ الكَبيرَ ويَرحَمونَ الصَّغيرَ ، ويُؤثِرونَ ذَا الحاجَةِ ، ويَحفَظونَ الغَريبَ .
فَقُلتُ : كَيفَ كانَ سيرَتُهُ في جُلَسائِهِ ؟
فَقالَ : كانَ دائِمَ البِشرِ ، سَهلَ الخُلُقِ ، لَيِّنَ الجانِبِ ، لَيسَ بِفَظٍّ ۳ ولا غَليظٍ ، ولا صَخّابٍ ولا فَحّاشٍ ولا عَيّابٍ ، ولا مَزّاحٍ ولا مَدّاحٍ ، يَتَغافَلُ عَمّا لا يَشتَهي ، فَلا يُؤيَسُ مِنهُ ولا يَخيبُ فيهِ مُؤَمِّليهِ ، قَد تَرَكَ نَفسَهُ مِن ثَلاثٍ : المِراءِ ۴ ، وَالإِكثارِ ، وما لا يَعنيهِ ، وتَرَكَ النّاسَ مِن ثَلاثٍ : كانَ لا يَذُمُّ أحَدا ، ولا يُعَيِّرُهُ ، ولا يَطلُبُ عَثَراتِهِ ولا عَورَتَهُ ، ولا يَتَكَلَّمُ إلّا فيما رَجا ثَوابَهُ ، إذا تَكَلَّمَ أطرَقَ جُلَساؤُهُ كَأَنَّما عَلى رُؤوسِهِمُ الطَّيرُ ۵ ، وإذا سَكَتَ تَكَلَّموا ، ولا يَتَنازَعونَ عِندَهُ الحَديثَ ، وإذا تَكَلَّمَ عِندَهُ أحَدٌ أنصَتوا لَهُ حَتّى يَفرُغَ مِن حَديثِهِ ، يَضحَكُ مِمّا يَضحَكونَ مِنهُ ، ويَتَعَجَّبُ مِمّا يَتَعَجَّبونَ مِنهُ ، ويَصبِرُ لِلغَريبِ عَلَى الجَفوَةِ فِي المَسأَلَةِ وَالمَنطِقِ ، حَتّى إن كانَ أصحابُهُ
1.لا تُؤْبَنُ فيه الحُرَمُ : أي لا يُذكرن بقبيح (النهاية : ج ۱ ص ۱۷ «أبن») .
2.في المصدر : «لا تُثنى» ، والصواب ما أثبتناه كما في سائر المصادر . و «لا تُنثى فلتاتُه» : أي لا تُشاع ولا تُذاع . والفَلَتات : جمع فَلتة ؛ وهي الزلّة . أراد أنّه لم يكن لمجلسه فلتات فتنثى (النهاية : ج ۵ ص ۱۶ «نثا») .
3.رجل فَظٌّ : شديد غليظ القلب (المصباح المنير : ص ۴۷۸ «فظظ») .
4.المِراءُ : الجدال (النهاية : ج ۴ ص ۳۲۲ «مرا») .
5.كأنّما على رؤوسهم الطَّير : معناه أنّهم كانوا لإجلالِهم نبيّهم عليه السلام لا يتحرّكون ، فكانت صفتهم صفةَ مَن على رأسه طائر يريد أن يصيده وهو يخاف إن تحرّك طار وذهب (مجمع البحرين : ج ۲ ص ۱۱۳۲ «طير») .