ووَجهٌ آخَرُ: فَإِنَّهُ عَلِمَ احتِمالَ كُلِّ قَومٍ فَأَعطاهُم عَلى قَدرِ احتِمالِهِم، ولَو كانَ الخَلقُ كُلُّهُم أغنِياءَ لَخَرِبَتِ الدُّنيا وفَسَدَ التَّدبيرُ، وصارَ أهلُها إلَى الفَناءِ ولكِن جَعَلَ بَعضَهُم لِبَعضٍ عَونا، وجَعَلَ أسبابَ أرزاقِهِم في ضُروبِ الأَعمالِ وأنواعِ الصّناعاتِ، وذلِكَ أدوَمُ فِي البَقاءِ وأصَحُّ فِي التَّدبيرِ، ثُمَّ اختَبَرَ الأَغنِياءَ بِالاِستِعطافِ عَلَى الفُقَراءِ، كُلُّ ذلِكَ لُطفٌ ورَحمَةٌ مِنَ الحَكيمِ الَّذي لايُعابُ تَدبيرُهُ.
قالَ: فَبِمَا استَحَقَّ الطِّفلُ الصَّغيرُ ما يُصيبُهُ مِنَ الأَوجاعِ وَالأَمراضِ بِلا ذَنبٍ عَمِلَهُ، ولا جُرمٍ سَلَفَ مِنهُ ؟
قالَ: إنَّ المَرَضَ عَلى وُجوهٍ شَتّى: مَرَضُ بَلوىً ومَرَضُ عُقوبَةٍ، مَرَضٌ جُعِلَ عِلَّةً لِلفَناءِ، وأنتَ تَزعُمُ أنَّ ذلِكَ مِن أغذِيَةٍ رَدِيَّةٍ، وأشرِبَةٍ وَبِيَّةٍ، أو عِلَّةٍ كانَت بِاُمِّهِ، وتَزعُمُ أنَّ مَن أحسَنَ السِّياسَةَ لِبَدَنِهِ، وأجمَلَ النَّظَرَ في أحوالِ نَفسِهِ، وعَرَفَ الضّارَّ مِمّا يَأكُلُ مِنَ النّافِعِ لَم يَمرَض، وتَميلُ في قَولِكَ إلى مَن يَزعُمُ أنَّهُ لا يَكونُ المَرَضُ وَالمَوتُ إلاّ مِنَ المَطعَمِ وَالمَشرَبِ.
قَد ماتَ أرِسطاطا ليسُ مُعَلِّمُ الأَطِبّاءِ، وأفلاطونُ رَئيسُ الحُكَماءِ، وجالينوسُ شاخَ ودَقَّ بَصَرُهُ وما دَفَعَ المَوتَ حينَ نَزَلَ بِساحَتِهِ، ولَم يَألوا حِفظَ أنفُسِهِم، وَالنَّظَرَ لِما يُوافِقُها.
كَم مِن مَريضٍ قَد زادَهُ المُعالِجُ سُقما ! وكَم مِن طَبيبٍ عالِمٍ، وبَصيرٍ بِالأَدواءِ والأَدوِيَةِ ماهرٍ ماتَ! وعاشَ الجاهِلُ بِالطِّبِّ بَعدَهُ