155
الحوار بین الحضارات فی الکتاب والسنة

ووَجهٌ آخَرُ: فَإِنَّهُ عَلِمَ احتِمالَ كُلِّ قَومٍ فَأَعطاهُم عَلى قَدرِ احتِمالِهِم، ولَو كانَ الخَلقُ كُلُّهُم أغنِياءَ لَخَرِبَتِ الدُّنيا وفَسَدَ التَّدبيرُ، وصارَ أهلُها إلَى الفَناءِ ولكِن جَعَلَ بَعضَهُم لِبَعضٍ عَونا، وجَعَلَ أسبابَ أرزاقِهِم في ضُروبِ الأَعمالِ وأنواعِ الصّناعاتِ، وذلِكَ أدوَمُ فِي البَقاءِ وأصَحُّ فِي التَّدبيرِ، ثُمَّ اختَبَرَ الأَغنِياءَ بِالاِستِعطافِ عَلَى الفُقَراءِ، كُلُّ ذلِكَ لُطفٌ ورَحمَةٌ مِنَ الحَكيمِ الَّذي لايُعابُ تَدبيرُهُ.
قالَ: فَبِمَا استَحَقَّ الطِّفلُ الصَّغيرُ ما يُصيبُهُ مِنَ الأَوجاعِ وَالأَمراضِ بِلا ذَنبٍ عَمِلَهُ، ولا جُرمٍ سَلَفَ مِنهُ ؟
قالَ: إنَّ المَرَضَ عَلى وُجوهٍ شَتّى: مَرَضُ بَلوىً ومَرَضُ عُقوبَةٍ، مَرَضٌ جُعِلَ عِلَّةً لِلفَناءِ، وأنتَ تَزعُمُ أنَّ ذلِكَ مِن أغذِيَةٍ رَدِيَّةٍ، وأشرِبَةٍ وَبِيَّةٍ، أو عِلَّةٍ كانَت بِاُمِّهِ، وتَزعُمُ أنَّ مَن أحسَنَ السِّياسَةَ لِبَدَنِهِ، وأجمَلَ النَّظَرَ في أحوالِ نَفسِهِ، وعَرَفَ الضّارَّ مِمّا يَأكُلُ مِنَ النّافِعِ لَم يَمرَض، وتَميلُ في قَولِكَ إلى مَن يَزعُمُ أنَّهُ لا يَكونُ المَرَضُ وَالمَوتُ إلاّ مِنَ المَطعَمِ وَالمَشرَبِ.
قَد ماتَ أرِسطاطا ليسُ مُعَلِّمُ الأَطِبّاءِ، وأفلاطونُ رَئيسُ الحُكَماءِ، وجالينوسُ شاخَ ودَقَّ بَصَرُهُ وما دَفَعَ المَوتَ حينَ نَزَلَ بِساحَتِهِ، ولَم يَألوا حِفظَ أنفُسِهِم، وَالنَّظَرَ لِما يُوافِقُها.
كَم مِن مَريضٍ قَد زادَهُ المُعالِجُ سُقما ! وكَم مِن طَبيبٍ عالِمٍ، وبَصيرٍ بِالأَدواءِ والأَدوِيَةِ ماهرٍ ماتَ! وعاشَ الجاهِلُ بِالطِّبِّ بَعدَهُ


الحوار بین الحضارات فی الکتاب والسنة
154

بِشَيءٍ إلاّ وقَد عَلِمَ أنَّهُ يَستَطيعُ فِعلَهُ، لِأَ نَّهُ لَيسَ مِن صِفَتِهِ الجَورُ وَالعَبَثُ وَالظُّلمُ وتَكليفُ العِبادِ ما لا يُطيقونَ.
قالَ: فَمَن خَلَقَهُ اللّه‏ُ كافِرا أيَستَطيعُ الإِيمانَ ولَهُ عَلَيهِ بِتَركِهِ الإِيمانَ حُجَّةٌ ؟
قالَ عليه‏السلام: إنَّ اللّه‏َ خَلَقَ خَلقَهُ جَميعا مُسلِمينَ، أمَرَهُم ونَهاهُم، وَالكُفرُ اسمٌ يَلحَقُ الفاعِلَ حينَ يَفعَلُهُ العَبدُ، ولَم يَخلُقِ اللّه‏ُ العَبدَ حينَ خَلَقَهُ كافِرا، إنَّهُ إنَّما كَفَرَ مِن بَعدِ أن بَلَغَ وَقتا لَزِمَتهُ الحُّجَةُ مِنَ اللّه‏ِ، فَعَرَضَ عَلَيهِ الحَقَّ فَجَحَدَهُ، فَبِإِنكارِهِ الحَقَّ صارَ كافِرا.
قالَ: أفَيَجوزُ أن يُقَدِّرَ عَلَى العَبدِ الشَّرَّ، ويَأمُرَهُ بِالخَيرِ وهُوَ لا يَستَطيعُ الخَيرَ أن يَعمَلَهُ، ويُعَذِّبَهُ عَلَيهِ ؟
قالَ: إنَّهُ لا يَليقُ بِعَدلِ اللّه‏ِ ورَأفَتِهِ أن يُقَدِّرَ عَلَى العَبدِ الشَّرَّ ويُريدَهُ مِنهُ، ثُمَّ يَأمُرَهُ بِما يَعلَمُ أنَّهُ لايَستَطيعُ أخذَهُ، والإِنزاعِ عَمّا لا يَقدِرُ عَلى تَركِهِ، ثُمَّ يُعَذِّبَهُ عَلى تَركِهِ أمرَهُ الَّذي عَلِمَ أنَّهُ لا يَستَطيعُ أخذَهُ.
قالَ: بِماذَا استَحَقَّ الَّذين أغناهُم وأوسَعَ عَلَيهِم مِن رِزقِهِ الغَناءَ وَالسَّعَةَ، وبِماذَا استَحَقَّ الفَقيرُ التَّقتيرَ وَالضّيقَ ؟
قالَ: اِختَبَرَ الأَغنِياءَ بِما أعطاهُم لِيَنظُرَ كَيفَ شُكرُهُم، وَالفُقَراءَ بِما مَنَعَهُم لِيَنظُرَ كَيفَ صَبرُهُم.
ووَجهٌ آخَرُ: إنَّهُ عَجَّلَ لِقَومٍ في حَياتِهِم، ولِقَومٍ آخَرَ لِيَومِ حاجَتِهِم إلَيهِ.

  • نام منبع :
    الحوار بین الحضارات فی الکتاب والسنة
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ری شهری، با همکاری: رضا برنجکار
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1394
    نوبت چاپ :
    قم
تعداد بازدید : 11062
صفحه از 216
پرینت  ارسال به