ثُمَّ يَجتَمِعونَ في مَوطِنٍ آخَرَ ويُدالُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ ، وهذا كُلُّهُ قَبلَ الحِسابِ ، فَإِذا اُخِذَ فِي الحِسابِ شُغِلَ كُلُّ إنسانٍ بِما لَدَيهِ ، نَسأَلُ اللَّهَ بَرَكَةَ ذلِكَ اليَومِ.
قالَ : فَرَّجتَ عَنّي فَرَّجَ اللَّهُ عَنكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، و حَلَلتَ عَنّي عُقدَةً فَعَظَّمَ اللَّهُ أجرَكَ.
فَقالَ عليه السلام : وأمّا قَولُهُ عزّ و جلّ : « وُجُوهٌ يَوْمَل-ِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » ، وقَولُهُ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » ، وقَولُهُ: « وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى » ، وقَولُهُ: « يَوْمَل-ِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضِىَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا » ؛ فَأَمّا قَولُهُ: « وُجُوهٌ يَوْمَل-ِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » ، فَإِنَّ ذلِكَ في مَوضِعٍ يَنتَهي فيهِ أولِياءُ اللَّهِ عزّ و جلّ بَعدَما يَفرُغُ مِنَ الحِسابِ إلى نَهرٍ يُسَمَّى الحَيَوانُ ، فَيَغتَسِلونَ فيهِ ويَشرَبونَ مِنهُ فَتَنضُرُ وُجوهُهُم إشراقاً فَيَذهَبُ عَنهُم كُلُّ قَذىً ووَعثٍ ، ثُمَّ يُؤمَرونَ بِدُخولِ الجَنَّةِ ، فَمِن هذَا المَقامِ يَنظُرونَ إلى رَبِّهِم كَيفَ يُثيبُهُم ومِنهُ يَدخُلونَ الجَنَّةَ ، فَذلِكَ قَولُهُ عزّ و جلّ مِن تَسليمِ المَلائِكَةِ عَلَيهِم : « سَلَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ »۱ ، فَعِندَ ذلِكَ أيقَنوا بِدُخولِ الجَنَّةِ وَالنَّظَرِ إلى ما وَعَدَهُم رَبُّهُم ، فَذلِكَ قَولُهُ: « إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » وإنَّما يَعني بِالنَّظَرِ إلَيهِ النَّظَرَ إلى ثَوابِهِ تَبارَكَ وتَعالى.
وأمّا قَولُهُ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » ، فَهُوَ كَما قالَ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ » يَعني لا تُحيطُ بِهِ الأَوهامُ « وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » يَعني يُحيطُ بِها « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » ، وذلِكَ مَدحٌ امتَدَحَ بِهِ رَبُّنا نَفسَهُ تَبارَكَ وتَعالى وتَقَدَّسَ عُلُوّاً كَبيراً ، وقَد سَأَلَ موسى عليه السلام وجَرى عَلى لِسانِهِ مِن حَمدِ اللَّهِ عزّ و جلّ : « رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ »۲ ، فَكانَت مَسأَلَتُهُ تِلكَ أمراً عَظيماً وسَأَلَ أمراً جَسيماً فَعوقِبَ ، فَقالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: لَن تَراني فِي الدُّنيا حَتّى تَموتَ فَتَراني فِي الآخِرَةِ ، ولكِن إن أرَدتَ أن تَراني فِي الدُّنيا فَانظُر « إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَلنِى » فَأَبدَى اللَّهُ سُبحانَهُ بَعضَ آياتِهِ