319
مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل

بالأمر، ثمّ قوله: (عبادي)، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: « فَإِنِّى قَرِيبٌ » ولم يقل: فقل إنّه قريب، ثمّ التأكيد بانّ، ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ علي القرب ليدلّ علي‏ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة علي تجدّد الإجابة واستمرارها حيث أتي بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب، أعني قوله: « أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ » بقوله: « إِذَا دَعَانِ » وهذا القيد لا يزيد علي قوله: « دَعْوَةَ الدَّاعِ » المقيّد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة علي أنّ « دَعْوَةَ الدَّاعِ » مجابة من غير شرط وقيد.۱

وانظروا إلى نموذج آخر من إيجاز القرآن في تصوير مشهد الاستقبال العظيم من قبل ملائكة الرحمة للمؤمنين عند دخول عالم الآخرة:
« وَالْمَلَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِ‏ّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ».۲

وتقدير الكلام هو: «قائلين لهم سلام عليكم» أو « يَقُولُونَ لَهُم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »، إلّا أنّ التعبير ب « سَلَمٌ عَلَيْكُمْ » ذكر للإيجاز مباشرة بعد بيان دخول الملائكة، وحذف الباقي.

ولا تقتصر بلاغة القرآن على الإيجاز فحسب، فعندما يكون الإطناب ضرورياً يتجلّى فنّ الإطناب وجماله، قال تعالي:
« وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَى‏ * قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى‏ غَنَمِى وَ لِىَ فِيهَا مََارِبُ أُخْرَى‏ ».۳

فالليل مظلم والبرد قارص، وموسى يبحث عن نار يدفئ بها زوجته المريضة، وإذا به يرى نوراً من بعيد، فيسارع نحوه، وإذا به يسمع نداء من الغيب، ويرى نفسه في حضور حقيقة الوجود، ويتكلّم اللَّه معه ويسأله: يا موسى، ما هذا الذي بيدك؟ وكان بإمكان موسى أن يجيبه بكلمة واحدة: «عصاي»، أو أن يقول: «هذه عصاي»،

1.الميزان في تفسير القرآن: ج ۲ ص ۳۱ - ۳۲.

2.الرعد: ۲۳ - ۲۴.

3.طه: ۱۷ - ۱۸.


مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
318

والإيجاز في الكلام هو جانب من بلاغة القرآن العظيمة، حيث حظيت باهتمام المستمعين إلى القرآن منذ العهود الاُولى.

ويشير الثعالبي - بعد أن يؤكّد تفوّق إيجاز القرآن قياساً بكلام الآخرين - إلى هذه الآية:
« وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى‏ سَوَآءٍ ».۱

ويذكر قائلاً:
فلو أراد أحد الأعيان الأعلام في البلاغة أن يعبّر عنه لم يستطع أن يأتي بهذه الالفاظ المؤديّة عن المعنى الّذى يتضمّنها حتّى يبسط مجموعَها، ويصِل مقطوعها ويُظهر مستورها.۲

وكتب الطبرسي في شرح الآيات:
« وَ قَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا ... فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا » .۳هيهنا حذف يدلّ الكلام عليه وهو : فأرسلون إلى يوسف فاُرسل فأتى يوسف في السجن وقال له: يا يوسف ايها الصديق... .۴

وقد تناول العلّامة الطباطبائي هذه الملاحظة نفسها بدقّة في تفسير آية اُخرى:
« وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ».۵

فقال:
قوله تعالي أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرقّ اُسلوب وأجمله، فقد وضع أساسه علي التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة علي كمال العناية

1.الانفال: ۵۸.

2.الإعجاز والإيجاز: ص ۲۰ - ۲۱.

3.يوسف: ۴۵ - ۴۶.

4.مجمع البيان: ج ۵ ص ۴۱۰.

5.البقرة: ۱۸۶.

  • نام منبع :
    مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ری‌شهری، با همکاری: جمعی از پژوهشگران
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1393
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 27802
صفحه از 616
پرینت  ارسال به