317
مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل

«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ‏ّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ».

ثمّ يجد عابد اللَّه نفسه - بعد ذلك - في حضور اللَّه الرحيم على إثر التوجّه إليه اللَّه وصفات كماله وربوبيته ورحمته الواسعة؛ ولذلك يتحوّل الكلام من الغائب إلى الحاضر (الالتفات من الغيبة إلى الحضور):
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ».

وحينئذ يطلب منه - في مقام الحاجة - إنزال كلّ النعم عليه ودفع كلّ المساوئ:
«اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ».

وفي هذا الطلب يؤدّي الكلام في غاية الدقّة، فعندما يدور الكلام في مدار إحسان اللَّه إلى الأطهار، يذكر الفعل بصيغة المعلوم وبالانتساب إلى اللَّه، ولكن عندما يدور الحديث حول الأشرار، فإنّه يصاغ بالصيغة المفعولية «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ » اسم الفاعل «الضَّالِّينَ » من دون النسبة إلى اللَّه؛ لأنّ النعم كلّها من اللَّه، والنقائص من الإنسان.۱

إنّ ما أشرنا إليه مجملاً ما هو إلّا نظرة خاطفة في القرآن الذي هو موطن الفصاحة والبلاغة، وبيان ذلك يحتاج إلي تفصيل كثير.

۱ - ۳. البلاغة والفصاحة

عرّفت البلاغة بأنّها:
تأدية المعني الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلّاب، مع ملائمة كلّ كلام للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون.۲

ويتمتّع القرآن بهذه الخصوصية بنحو كامل؛ ولذلك فإنّه يزرع معانيه في أعماق أرواح المخاطبين، ويُخضع نفوسهم لتأثيره ليسيطر عليها.

1.راجع: الميزان في تفسير القرآن: ج ۱ (تفسير سورة الحمد).

2.البلاغة الواضحة: ص ۸.


مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
316

من باب الترادف.

وعلى حدّ قول الجاحظ، فإنّ الناس يستعملون من باب التسامح الألفاظ بدلاً من بعضها البعض ولا يلتفتون إلى الاختلافات الدقيقة بينها، ألا ترى أنّ اللَّه لم يستعمل «الجوع» إلّا في موضع العقاب، أو الفقر والحاجة الشديدة والعجز الظاهر، في حين أنّ الناس يستعملون الجوع بدل كلمة «السَغَب» أيضاً والتي تعني الجوع العادي المقترن بالسلامة في الجسم والتمكّن والقدرة. وهكذا الحال بالنسبة إلى كلمة «المطر» التي لم تستعمل في القرآن إلّا في موضع الانتقام، ولكنّ عامّة الناس بل حتّى معظم المتخصّصين لا يفرّقون بينها وبين «الغيث».۱

وقد أعربي الراغب في مقدّمة كتاب المفردات عن أمله في أن يؤلّف ذات يوم كتاباً آخر في الألفاظ المترادفة في الظاهر في القرآن، وأن يثبت في هذا الكتاب مدى الاختلافات الدقيقة للغاية بين معانيها، وعلى سبيل المثال: ما هي الاختلافات بين الكلمات: «القلب» و«الفؤاد» و«الصدر»؟ ولماذا قال في نهايات بعض الآيات: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَأَيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ »، وقال في آيات اُخرى (لقوم يتفكرون)، وفي مواضع اُخرى: «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »، و«لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ »، و(لأولي الأبصار)، و«لِّذِى حِجْرٍ »، و«لِاُّولِى النُّهَى‏ »، وغير ذلك‏۲؟

كما ينقل السيوطي عن ابن عطية أنّنا إذا حذفنا كلمة من القرآن وبحثنا عن مرادف لها في كلام العرب، فلن نجد كلمة لا يتضرر البيان القرآني الخارق للعادة من خلال استعمالها.۳

كما تتجسّد الدقائق العديدة الداعية إلى الإعجاب في سورة الحمد، حيث تأتي بداية الكلام في وصف اللَّه على نحو الغائب:

1.البيان والتبيين: ص ۲۶.

2.مفردات ألفاظ القرآن: ص ۶.

3.الإتقان في علوم القرآن: ج ۲ ص ۲۵۷.

  • نام منبع :
    مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ری‌شهری، با همکاری: جمعی از پژوهشگران
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1393
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 27763
صفحه از 616
پرینت  ارسال به