ووَعثٍ ، ثُمَّ يُؤمَرونَ بِدُخولِ الجَنَّةِ ، فَمِن هذَا المَقامِ يَنظُرونَ إلى رَبِّهِم كَيفَ يُثيبُهُم ومِنهُ يَدخُلونَ الجَنَّةَ ، فَذلِكَ قَولُهُ عزّ و جلّ مِن تَسليمِ المَلائِكَةِ عَلَيهِم: « سَلَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ »۱، فَعِندَ ذلِكَ أيقَنوا بِدُخولِ الجَنَّةِ وَالنَّظَرِ إلى ما وَعَدَهُم رَبُّهُم ، فَذلِكَ قَولُهُ: « إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » وإنَّما يَعني بِالنَّظَرِ إلَيهِ النَّظَرَ إلى ثَوابِهِ تَبارَكَ وتَعالى.
وأمّا قَولُهُ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » ، فَهُوَ كَما قالَ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ » يَعني لا تُحيطُ بِهِ الأَوهامُ « وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » يَعني يُحيطُ بِها « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » ، وذلِكَ مَدحٌ امتَدَحَ بِهِ رَبُّنا نَفسَهُ تَبارَكَ وتَعالى وتَقَدَّسَ عُلُوّاً كَبيراً ، وقَد سَأَلَ موسى عليه السلام وجَرى عَلى لِسانِهِ مِن حَمدِ اللَّهِ عزّ و جلّ : « رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ »۲، فَكانَت مَسأَلَتُهُ تِلكَ أمراً عَظيماً وسَأَلَ أمراً جَسيماً فَعوقِبَ ، فَقالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: لَن تَراني ... فَانظُر « إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَلنِى » فَأَبدَى اللَّهُ سُبحانَهُ بَعضَ آياتِهِ وتَجَلّى رَبُّنا لِلجَبَلِ فَتَقَطَّعَ الجَبلُ فَصارَ رَميماً ، وخَرَّ موسى صَعِقاً ؛ يَعني مَيِّتاً ، فَكانَ عُقوبَتُهُ المَوتَ ، ثُمَّ أحياهُ اللَّهُ وبَعَثَهُ وتابَ عَلَيهِ فَقالَ: « سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » يَعني أوَّلَ مُؤمِنٍ آمَنَ بِكَ مِنهُم أنَّهُ لَن يَراكَ.
وأمّا قَولُهُ: « وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى » يَعني مُحَمَّداً صلى اللّه عليه و آله كانَ عِندَ سِدرَةِ المُنتَهى حَيثُ لا يَتَجاوَزُها خَلقٌ مِن خَلقِ اللَّهِ ، وقَولُهُ في آخِرِ الآيَةِ: « مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى » رَأى جَبرَئيلَ عليه السلام في صورَتِهِ مَرَّتَينِ هذِهِ المَرَّةَ ومَرَّةً اُخرى ، وذلِكَ أنَّ خَلقَ جَبرَئيلَ عَظيمٌ ؛ فَهُوَ مِنَ الرّوحانِيّينَ الَّذينَ لا يُدرِكُ خَلقَهُم وصِفَتَهُم إلَّا اللَّهُ رَبُّ العالَمينَ.
وأمّا قَولُهُ: « يَوْمَل-ِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضِىَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا » لا يُحيطُ الخَلائِقُ بِاللَّهِ عزّ و جلّ عِلماً إذ هُوَ تَبارَكَ وتَعالى جَعَلَ عَلى أبصارِ القُلوبِ الغِطاءَ ، فَلا فَهمٌ يَنالُهُ بِالكَيفِ ولا قَلبٌ يُثبِتُهُ