289
مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل

ووَعثٍ ، ثُمَّ يُؤمَرونَ بِدُخولِ الجَنَّةِ ، فَمِن هذَا المَقامِ يَنظُرونَ إلى‏ رَبِّهِم كَيفَ يُثيبُهُم ومِنهُ يَدخُلونَ الجَنَّةَ ، فَذلِكَ قَولُهُ عزّ و جلّ مِن تَسليمِ المَلائِكَةِ عَلَيهِم: « سَلَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَلِدِينَ »۱، فَعِندَ ذلِكَ أيقَنوا بِدُخولِ الجَنَّةِ وَالنَّظَرِ إلى‏ ما وَعَدَهُم رَبُّهُم ، فَذلِكَ قَولُهُ: « إِلَى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » وإنَّما يَعني بِالنَّظَرِ إلَيهِ النَّظَرَ إلى‏ ثَوابِهِ تَبارَكَ وتَعالى‏.
وأمّا قَولُهُ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » ، فَهُوَ كَما قالَ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ » يَعني لا تُحيطُ بِهِ الأَوهامُ « وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » يَعني يُحيطُ بِها « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » ، وذلِكَ مَدحٌ امتَدَحَ بِهِ رَبُّنا نَفسَهُ تَبارَكَ وتَعالى‏ وتَقَدَّسَ عُلُوّاً كَبيراً ، وقَد سَأَلَ موسى‏ عليه السلام وجَرى‏ عَلى‏ لِسانِهِ مِن حَمدِ اللَّهِ عزّ و جلّ : « رَبِ‏ّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ »۲، فَكانَت مَسأَلَتُهُ تِلكَ أمراً عَظيماً وسَأَلَ أمراً جَسيماً فَعوقِبَ ، فَقالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى‏: لَن تَراني ... فَانظُر « إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَلنِى » فَأَبدَى اللَّهُ سُبحانَهُ بَعضَ آياتِهِ وتَجَلّى‏ رَبُّنا لِلجَبَلِ فَتَقَطَّعَ الجَبلُ فَصارَ رَميماً ، وخَرَّ موسى‏ صَعِقاً ؛ يَعني مَيِّتاً ، فَكانَ عُقوبَتُهُ المَوتَ ، ثُمَّ أحياهُ اللَّهُ وبَعَثَهُ وتابَ عَلَيهِ فَقالَ: « سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » يَعني أوَّلَ مُؤمِنٍ آمَنَ بِكَ مِنهُم أنَّهُ لَن يَراكَ.
وأمّا قَولُهُ: « وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى‏ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى‏ » يَعني مُحَمَّداً صلى اللّه عليه و آله كانَ عِندَ سِدرَةِ المُنتَهى‏ حَيثُ لا يَتَجاوَزُها خَلقٌ مِن خَلقِ اللَّهِ ، وقَولُهُ في آخِرِ الآيَةِ: « مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى‏ * لَقَدْ رَأَى‏ مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى‏ » رَأى جَبرَئيلَ عليه السلام في صورَتِهِ مَرَّتَينِ هذِهِ المَرَّةَ ومَرَّةً اُخرى‏ ، وذلِكَ أنَّ خَلقَ جَبرَئيلَ عَظيمٌ ؛ فَهُوَ مِنَ الرّوحانِيّينَ الَّذينَ لا يُدرِكُ خَلقَهُم وصِفَتَهُم إلَّا اللَّهُ رَبُّ العالَمينَ.
وأمّا قَولُهُ: « يَوْمَل-ِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضِىَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا » لا يُحيطُ الخَلائِقُ بِاللَّهِ عزّ و جلّ عِلماً إذ هُوَ تَبارَكَ وتَعالى‏ جَعَلَ عَلى‏ أبصارِ القُلوبِ الغِطاءَ ، فَلا فَهمٌ يَنالُهُ بِالكَيفِ ولا قَلبٌ يُثبِتُهُ

1.الزمر : ۷۳ .

2.الأعراف : ۱۴۳ .


مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
288

إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وقالَ صَواباً۱ ، فَيَقومُ الرُّسُلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِم ، فَيَشهَدونَ في هذَا المَوطِنِ ، فَذلِكَ قَولُهُ : « فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِ‏ّ أُمَّةِ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى‏ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ».۲
ثُمَّ يَجتَمِعونَ في مَوطِنٍ آخَرَ يَكونُ فيهِ مَقامُ مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه و آله ، وهُوَ المَقامُ المَحمودُ ، فَيُثني عَلَى اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى‏ بِما لَم يُثنِ عَلَيهِ أحَدٌ قَبلَهُ ، ثُمَّ يُثني عَلَى المَلائِكَةِ كُلِّهِم فَلا يَبقى‏ مَلَكٌ إلّا أثنى‏ عَلَيهِ مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه و آله ، ثُمَّ يُثني عَلَى الرُّسُلِ بِما لَم يُثنِ عَلَيهِم أحَدٌ قَبلَهُ ، ثُمَّ يُثني عَلى‏ كُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ ؛ يَبدَأُ بِالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ ثُمَّ بِالصّالِحينَ ، فَيَحمَدُهُ أهلُ السَّماواتِ وَالأَرضِ ، فَذلِكَ قَولُهُ : « عَسَى‏ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا »۳، فَطوبى‏ لِمَن كانَ لَهُ في ذلِكَ المَقامِ حَظٌّ ، ووَيلٌ لِمَن لَم يَكُن لَهُ في ذلِكَ المَقامِ حَظٌّ ولا نَصيبٌ .
ثُمَّ يَجتَمِعونَ في مَوطِنٍ آخَرَ ويُدالُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ ، وهذا كُلُّهُ قَبلَ الحِسابِ ، فَإِذا اُخِذَ فِي الحِسابِ شُغِلَ كُلُّ إنسانٍ بِما لَدَيهِ ، نَسأَلُ اللَّهَ بَرَكَةَ ذلِكَ اليَومِ.
قالَ: فَرَّجتَ عَنّي فَرَّجَ اللَّهُ عَنكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، وحَلَلتَ عَنّي عُقدَةً فَعَظَّمَ اللَّهُ أجرَكَ.
فَقالَ عليه السلام : وأمّا قَولُهُ عزّ و جلّ : « وُجُوهٌ يَوْمَل-ِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » ، وقَولُهُ: « لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ » ، وقَولُهُ: « وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى‏ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى‏ » ، وقَولُهُ: « يَوْمَل-ِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضِىَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا » ؛ فَأَمّا قَولُهُ: « وُجُوهٌ يَوْمَل-ِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » ، فَإِنَّ ذلِكَ في مَوضِعٍ يَنتَهي فيهِ أولِياءُ اللَّهِ عزّ و جلّ بَعدَما يَفرُغُ مِنَ الحِسابِ إلى‏ نَهرٍ يُسَمَّى الحَيَوانُ ، فَيَغتَسِلونَ فيهِ ويَشرَبونَ مِنهُ فَتَنضُرُ وُجوهُهُم إشراقاً فَيَذهَبُ عَنهُم كُلُّ قَذىً

1.إشارة إلى الآية ۳۸ في سورة النبأ .

2.النساء : ۴۱ .

3.الإسراء : ۷۹ .

  • نام منبع :
    مَعرفةُ القرآنِ علی ضُوءِ الکتاب و السّنّة المجلّد الأوّل
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ری‌شهری، با همکاری: جمعی از پژوهشگران
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1393
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 27928
صفحه از 616
پرینت  ارسال به