315
مسند ابن ابی عمیر المجلّد الأوّل

نفسه وعياله ، ثمّ الثالثة على قرابته الفقراء ، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثمّ الخامسة في سبيل اللَّه ، وهو أخسّها أجراً .
وقال رسول اللَّه صلى اللّه عليه و آله للأنصاريّ حين أعتَقَ عند موته خمسةً أو ستّةً من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنوه مع المسلمين ، يترك صبيةً صغاراً يتكفّفون الناس ! ثمّ قال : حدّثني أبي أنّ رسول اللَّه صلى اللّه عليه و آله قال : ابدأ بمن تعول ، الأدنى فالأدنى ، ثمّ هذا ما نطق به الكتاب ردّاً لقولكم ونهياً عنه مفروضاً من اللَّه العزيز الحكيم ، قال : « وَ الَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَ لَمْ يَقْتُرُواْ وَ كَانَ بَيْنَ ذَ لِكَ قَوَامًا »۱، أفلا ترون أنّ اللَّه تبارك وتعالى قال : غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الأثَرَة على أنفسهم ، وسمّى من فعل ما تدعون الناس إليه مُسرفاً ، وفي غير آيةٍ من كتاب اللَّه يقول : « إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ »۲، فنهاهم عن الإسراف ، ونهاهم عن التقتير ، ولكن أمر بين أمرين ، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو اللَّه أن يرزقه فلا يستجيب له ، للحديث الّذي جاء عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم : رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريمٍ ذهب له بمالٍ فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل اللَّه عزّ و جلّ تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول : ربّ ارزقني ، ولا يخرج ولا يطلب الرزق فيقول اللَّه عزّ و جلّ له : عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة ، فتكون قد أُعذِرتَ فيما بيني وبينك في الطلب لاتّباع أمري ، ولكيلا تكون كلاًّ على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قتّرت عليك ، وأنت غير معذورٍ عندي ؛ ورجل رزقه اللَّه مالاً كثيراً فأنفقه ثمّ أقبل يدعو : يا ربّ ارزقني ، فيقول اللَّه عزّ و جلّ : ألم أرزقك رزقاً واسعاً ، فهلّا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف ؟ ورجل يدعو في قطيعة رحمٍ .
ثمّ علّم اللَّه عزّ و جلّ نبيّه صلى اللّه عليه و آله كيف ينفق ، وذلك أنّه كانت عنده أُوقيّة من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدّق بها ، فأصبح وليس عنده شي‏ء ، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما

1.سورة الفرقان ( ۲۵ ) ، الآية ۶۷ .

2.سورة الأنعام ( ۶ ) ، الآية ۱۴۱ .


مسند ابن ابی عمیر المجلّد الأوّل
314

في زمانٍ مُقفِرٍ جَدبٍ ، فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها ، ومؤمنوها لا منافقوها ، ومسلموها لا كفّارها ، فما أنكرتَ يا ثوري ؟ فوَ اللَّه إنّني لمع ما ترى ما أتى علَيَّ مذ عقلتُ صباحٌ ولا مساءٌ ، وللَّه في مالي حقٌّ أمرني أن أضعه موضعاً إلّا وضعته .
قال : فأتاه قوم ممّن يظهرون الزهد ويدعون الناسَ أن يكونوا معهم على مثل الّذي هم عليه من التقشّف ، فقالوا له : إنّ صاحبنا حَصِرَ عن كلامك ولم تحضره حججُهُ ، فقال لهم : فهاتوا حججكم ، فقالوا له : إنّ حججنا من كتاب اللَّه ، فقال لهم : فأدلوا بها فإنّها أحقّ ما اتُّبِع وعُمِل به ، فقالوا : يقول اللَّه تبارك وتعالى مخبراً عن قومٍ من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله : « وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »۱ فمدح فعلهم ، وقال في موضعٍ آخر : « وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى‏ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَ يَتِيمًا وَ أَسِيرًا »۲، فنحن نكتفي بهذا . فقال رجل من الجلساء : إنّا رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ، ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتّى تَمتّعوا أنتم منها .
فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام : دعوا عنكم ما لا تنتفعون به ، أخبروني أيّها النفر ، ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه الّذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الأُمّة ؟ فقالوا له : أو بعضِهِ ، فأمّا كلُّهُ فلا ، فقال لهم : فمن هنا أُتيتم ، وكذلك أحاديث رسول اللَّه صلى اللّه عليه و آله ، فأمّا ما ذكرتم من إخبار اللَّه عزّ و جلّ إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم ، فقد كان مباحاً جائزاً ، ولم يكونوا نُهُوا عنه وثوابُهم منه على اللَّه عزّ و جلّ ، وذلك أنّ اللَّه - جلّ وتقدّس - أمر بخلاف ما عملوا به ، فصار أمره ناسخاً لفعلهم ، وكان نهى اللَّه تبارك وتعالى رحمةً منه للمؤمنين ونظراً ؛ لكيلا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم ، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع ، فإن تصدّقتُ برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعاً ، فمن ثمّ قال رسول اللَّه صلى اللّه عليه و آله : خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها ، فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه ، ثمّ الثانية على

1.سورة الإنسان ( ۷۶ ) ، الآية ۸ .

2.الحشر (۵۹) : ۹ .

  • نام منبع :
    مسند ابن ابی عمیر المجلّد الأوّل
    سایر پدیدآورندگان :
    گردآوری و تنظیم: بشیر محمدی مازندرانی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1393
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 9414
صفحه از 516
پرینت  ارسال به