الحديث الثاني والثلاثون والمائة
[تجسّم الأعمال يوم القيامة]
۰.ما رويناه عن ثقة الإسلام في الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ابن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن سدير الصيرفيّ ، قال : قال أبو عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في حديث طويل : « إذا بعث اللَّه المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وابشر بالسرور ، ولاكرامة من اللَّه عزّ وجلّ حتّى يقف بين يدي اللَّه تعالى ، فيحاسبه حساباً يسيراً ويأمر به إلى الجنّة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك اللَّه ، نعم الخارج خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من اللَّه عزّ وجلّ حتّى رأيت ذلك ، فمن أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني اللَّه منه »۱ .
تحقيق
في هذا الحديث دلالة على تجسّم الأعمال في النشأة الاُخرويّة ، بل قد ورد في بعض الأخبار تجسّم الاعتقادات أيضاً ، ولا بُعد في أنّ الأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر في الآخرة صوراً نورانيّة مستحسنة ، موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج ، والأعمال السيّئة بعكس ذلك ، ويرشد إلى ذلك ظواهر كثير من الآيات والروايات .
قال اللَّه تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ »۲ .
وقال تعالى : « يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »۳ ، ومن جعل التقدير : ليروا جزاء أعمالهم ولم يُرجع ضمير «يره» إلى العمل ، فقد أبعد .
وقال الشيخ البهائيّ رحمة اللَّه عليه :
الحقّ أنّ الموزون في النشأة الآخرة هو نفس الأعمال لا صحايفها ، وما يقال من أنّ تجسّم العرض طور خلاف طور العقل فكلام ظاهريّ عامّيّ ، والذي عليه الخواصّ من أهل التحقيق : أنّ سنخ الشيء وحقيقته أمر مغاير للصورة التي يتجلّى بها على المشاعر الظاهرة ، ويلبسها لدى المدارك الباطنة ، وأنّه يختلف ظهوره في تلك الصور بحسب اختلاف المواطن والنشئآت ، فيلبس في كلّ موطن لباساً ويتجلبب في كلّ نشأة بجلباب ، كما قالوا : إنّ لون الماء لون إنائه ، وأمّا الأصل الذي تتوارد هذه الصور عليه ويعبّرون عنه تارة لسنخ ، ومرّة بالوجه واُخرى بالروح ، فلا يعلمه إلّا علّام الغيوب ، فلا بُعد في كون الشيء في موطن عَرَضاً وفي آخر جوهراً .
ألا ترى إلى الشيء المبصَر فإنّه إنّما يظهر لحسّ البصر إذا كان محفوفاً بالجلابيب الجسمانيّة ، ملازماً لوضع خاصّ ، وتوسّط بين القرب والبعد المفرطين وأمثال ذلك ، وهو يظهر في الحسّ المشترك عَريّاً من تلك الاُمور التي كانت شرط ظهوره لذلك الحسّ .
ألا ترى إلى أنّ ما يظهر في اليقظة من صورة العلم فإنّه في تلك النشأة أمر عرضيّ ، ثمّ إنّه يظهر في النوم بصورة اللبن ، فالظاهر في الصورتين سنخ واحد ، تجلّى في كلّ موطن بصورة ، وتحلّى في كلّ نشأة بحلية ، وتزيّا في كلّ عالم بزيّ ، وتسمّى في كلّ مقام باسم ، فقد تجسّم في مقام ما كان عرضاً في مقام آخر .
وقال أيضاً :
تجسّم الأعمال في النشئآت الاُخرويّة وأن يكون قرين الإنسان في قبره وحشره قد ورد في أحاديث متكثّرة من طرق المخالف والموافق .
وقد روى أصحابنا عن قيس بن عاصم ، قال : وفدت مع جماعة من بني تميم على النبيّ صلى اللَّه عليه وآله فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدهمس۴ ، فقلت : يا رسول اللَّه ، عظنا موعظة ننتفع بها فإنّا قوم نقرّ بالبريّة .
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله : « يا قيس ، إنّ مع العزّ ذلّاً ، وإنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ شيء رقيباً ، وعلى كلّ شيء حسيباً ، وإنّ لكلّ أجل كتاباً ، وإنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ ، وتدفن معه وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك اللَّه ، وإن كان لئيماً أساءك ، ثمّ لا يحشر إلّا معك ولا تحشر إلّا معه ، ولا تُسئَل إلّا عنه ، فلا تجعله إلّا صالحاً ، فإنّه إن صلح أنستَ به ، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه ، وهو فعلك » .
فقال : يا نبيّ اللَّه ، اُحبّ أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفتخر به على من يلينا من العرب وندّخره .
فأمر النبيّ من يأتيه بحسّان ، قال قيس : فاستبان لي القول قبل مجيء حسّان ، فقلت : يا رسول اللَّه ، قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد ، فقلت :
تخيّر خليطاً من فعالك إنّماقرينُ الفتى في القبر ما كان يفعل
ولابدّ بعد الموت من أن تعدّهليوم ينادى المرء فيه فيقبل
فإن تك مشغولاً بشيء فلا تكنبغير الذي يرضى به اللَّه تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موتهومن قبله إلّا الذي كان يعمل
ثمّ قال البهائيّ :
قال بعض أصحاب القلوب : إنّ الحيّات والعقارب بل والنيران التي تظهر في القيامة هي بعينها الأعمال القبيحة ، والأخلاق الذميمة ، والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب ، كما أنّ الرَوح والريحان ، والحور والثمار هي الأخلاق الزكيّة ، والأعمال الصالحة ، والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزيّ وتسمّت بهذا الاسم ؛ إذ الحقيقة واحدة ، تختلف صورها باختلاف المواطن ، فتتحلّى في كلّ موطن بحلية ، وتتزيّا في كلّ نشأة بزيّ .
وقالوا : إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى : « يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَفِرِينَ »۵ ليس بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد : إنّها ستحيط بهم في النشأة الاُخرى - كما ذكره الظاهريّون من المفسّرين - بل هو على حقيقته من معنى الحال ، فإنّ قبائحهم الخلقيّة والعمليّة والاعتقاديّة محيطة بهم في هذه النشأة ، وهي بعينها جهنّم التي ستظهر لهم في النشأة الآخرة بصورة النار وعقاربها وحيّاتها .
وقس على ذلك قول اللَّه عزّ وجلّ : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَ لَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »۶ ، وكذلك قوله سبحانه : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا »۷ ؛ إذ ليس المراد أنّها تجد جزاءه بل تجده بعينه ، لكن ظاهراً في جلباب آخر ، وقوله تعالى : « فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًْا وَ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ »۸ كالصريح في ذلك ، ومثله في القرآن العزيز كثير .
وورد في الأحاديث النبويّة منه ما لا يحصى ، كقوله : « الذي يشرب في آنية الذهب والفضّة إنّما يجرجر في جوفه نار جهنّم » .
وقوله صلى اللَّه عليه وآله : « الظلم ظلمات يوم القيامة » .
وقوله : « الجنّة قيعان ، وأنّ غراسها : سبحان اللَّه وبحمده » ، إلى غير ذلك من الأحاديث المتكثّرة ، واللَّه الهادي۹ . انتهى .
أقول : قد تقدّم في أحاديث الجنّة والنار أحاديث كثيرة من هذا القبيل إلّا أنّ حملها على خلق اللَّه تعالى ما يماثل الأعمال والاعتقادات غير بعيد ، كما يشهد بذلك كثير من الروايات السابقة ، فتدبّر .
قال العلّامة المحدّث المجلسيّ رحمة اللَّه عليه في البحار - بعد نقل كلام البهائيّ الأخير - :
القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة ؛ إذ النشأة الآخرة ليست إلّا مثل تلك النشأة ، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك ، والقياس على حال النوم واليقظة أشدّ سفسطة ؛ إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلميّ ، وما يظهر في الخارج فإنّما يظهر بالوجود العينيّ ، ولا استبعاد كثيراً في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين ، وأمّا النشأتان فهما من الوجود العينيّ ، ولا اختلاف بينهما إلّا بما ذكرنا ، وقد عرفت أنّه لا يصلح لاختلاف الحكم العقليّ في ذلك ، وأمّا الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك ؛ إذ يمكن حملها على أنّ اللَّه تعالى يخلق هذه بأزاء تلك ، أو هي جزاؤها ، ومثل هذا المجاز شائع ، بهذا الوجه وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات ، واللَّه يعلم وحججه عليهم السلام۱۰ ، انتهى كلامه رفع مقامه .
1.الكافي ، ج ۲ ، ص ۱۹۰ ، باب إدخال السرور على المؤمنين ، ح۸ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱۶ ، ص۳۵۲ ، ح۲۱۷۴۲ ؛ بحار الأنوار ، ج ۷ ، ص۱۹۷ ، ح۹۶ .
2.آل عمران ( ۳ ) : ۳۰ .
3.الزلزلة ( ۹۹ ) : ۶ - ۸ .
4.في المصدر : « الدلهمس » .
5.العنكبوت ( ۲۹ ) : ۵۴ .
6.النساء (۴) : ۱۰ .
7.يس ( ۳۶ ) : ۵۴ .
8.الأربعون ، ص ۴۹۳ - ۴۹۵ .
9.بحار الأنوار ، ج ۷ ، ص ۲۲۹ - ۲۳۰ .