9
مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار

مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
8

(والركن الوثيق) كناية عن العقائد الحقّة البرهانيّة اليقينيّة التي يعتمد عليها في دفع الشبهات ودفع مشقّة الطاعات .
(والعلم يحرسك) أي من مخاوف الدنيا والآخرة ، والفتن والشكوك والوساوس الشيطانيّة .
(والعلم يزكو على الإنفاق) أي ينمو ويزيد به ؛ إمّا لأنّ كثرة المدارسة توجب وفور الممارسة وقوّة الفكر ، أو لأنّ اللَّه تعالى يفيض من خزائن علمه على من لا يبخل به . وكلمة «على» إمّا بمعنى «مع» كما قيل في قوله تعالى : « وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى‏ ظُلْمِهِمْ »۱ أي معه ، أو للسببيّة والتعليل كما في قوله تعالى : « وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى‏ مَا هَداكُمْ »۲ .
وفي بعض الأخبار بعد هذا : «والعلم حاكم والمال محكوم عليه» ؛ لأنّ بالعلم يحكم على الأموال في القضاء ، وينتزع من أحد الخصمين ويصرف إلى الآخر ، وأيضاً إنفاقه وجمعه على وفق العلم بوجوه تحصيله ومصارفه .
(محبّة العالم دين يدان به) أي طاعة يطاع اللَّه بها ، أو طاعته هي جزاء نعم اللَّه وشكر لها ، أو يدان ويجزى صاحبه بها ، أو محبّة العالم - وهو الإمام دين - وملّة يعبد اللَّه بسببه ، ولا تقبل الطاعات إلّا به ، فإنّ الدين يطلق على الطاعة والجزاء . وفي النهج : «معرفة العالم دين يدان به» .
(يكسبه الطاعة في حياته) . قال البهائيّ رحمة اللَّه عليه : يكسب - بضمّ حرف المضارعة - من أكسب ، والمراد أنّه يكسب الإنسان طاعة اللَّه تعالى أو يكسبه طاعة العباد له ، انتهى .
ويمكن جعله من المجرّد أيضاً فإنّه ورد بهذا المعنى ، والضمير في «يكسبه» راجع إلى صاحب العلم .
(وجميع الاُحدوثة) أي الكلام الجميل والثناء ، والاُحدوثة مفرد الأحاديث .
(مات خزّان الأموال وهم أحياء) أي هم في حال حياتهم كالأموات ؛ لعدم ترتّب فائدة الحياة على حياتهم ، من فهم الحقّ وسماعه وقبوله والعمل به واستعمال الجوارح فيما خلقت لأجله ، كما قال تعالى : « أَمْوَ تٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ »۳ .
(والعلماء) بعد موتهم (باقون) بذكرهم الجميل وبما حصل لهم من السعادات واللذّات في عالم البرزخ والنشأة الآخرة .
(أحياء عند ربّهم يرزقون) وبما يترتّب على آثارهم وعلومهم وينتفع الناس من بركاتهم الباقية مدى الأعصار .
(وأمثالهم في القلوب موجودة) . قال البهائيّ :
الأمثال جمع مَثَل بالتحريك وهو في الأصل بمعنى النظير ، ثمّ استعمل في القول السائر الممثل بمورده ، ثمّ في الكلام الذي له شأن وغرابة ، وهذا هو المراد هنا ، أي أنّ حكمهم ومواعظهم محفوظة عند أهلها ، يعملون بها ويهتدون بمنارها . انتهى .
قيل : ويحتمل أن يكون المراد بأمثالهم أشباحهم وصورهم ، فإنّ المحبّين لهم والمهتدين بهم والمقتدين بآثارهم يذكرونهم دائماً وصورهم ممثّلة في قلوبهم . على أن يكون جمع مَثَل بالتحريك ، أو جمع مثل بالكسر ، فإنّه أيضاً يجمع على أمثال .
(إنّ ههنا لعلماً) وفي النهج وغيره : «لعلماً جمّاً» أي كثيراً . (لو أصبت له حملة) بالفتحات : جمع حامل ، أي من يكون أهلاً له ، وجواب «لو» محذوف ، أي لبذلته أو لأظهرته ، مع أنّ كلمة «لو» التي للتمنّي لا تحتاج إلى جزاء عند كثير من النحاة .
(بلى اُصيب له لِقنا) بفتح اللام وكسر القاف : الفهم من اللقانة ، وهي حسن الفهم .
(غير مأمون) أي يذيعه إلى غير أهله ويضعه في غير موضعه .
(ويستعمل آلة الدين في الدنيا) أي يجعل العلم الذي هو آلة ووصلة إلى الفوز بالسعادة الأبديّة وسيلة وآلة إلى تحصيل الحظوظ الدنيويّة كالمال والجاه وميل الخلائق إليه وإقبالهم عليه .
(ويستظهر بحجج اللَّه على خلقه) لعلّ المراد بالحجج والنعم : أئمّة الحقّ ، أي يستعين بهؤلاء ويأخذ منهم العلوم ليظهر هذا العلم للناس ، فتتّخذه ضعفاء العقول بطانة ووليجة ، ويصدّ الناس عن وليّ الحقّ ، ويدعوهم إلى نفسه .
ويحتمل أن يكون المراد بالحجج والنعم : العلم الذي آتاه اللَّه ويكون الظرفان متعلّقين بالاستظهار ، أي يستعين بالحجج للغلبة على الخلق وبالنعم للغلبة على العباد .
(أو منقاداً لحملة العلم) بالحاء المهملة ، وفي بعض النسخ بالجيم ، أي مؤمناً بالحقّ معتقداً له على سبيل الجملة ، و يؤيّده ما في بعض النسخ : أو قائلاً بجملة الحقّ .
(لا بصيرة له في أحنائه) . قال البهائيّ : بفتح الهمزة وبعدها حاء مهملة ثمّ نون ، أي جوانبه ، أي ليس له غور وتعمّق فيه .
وفي بعض النسخ : «في إحيائه» بالياء المثنّاة من تحت ، أي في ترويجه وتقويته .
(يقدح الشكّ) على صيغة المجهول ، يقال : قدحت النار ، أي استخرجتها بالمقدّحة ، وفي النهج : ينقدح ، وحاصله : أنّه يشتعل نار الشكّ «في قلبه» بسبب أوّل شبهة عرضت له ، فكيف إذا توالت وتواترت ؟
(ألا ، لا ذا ولا ذاك) أي ليس المنقاد العديم البصيرة أهلاً لتحمّل العلم ، ولا اللقن الغير المأمون ، وهذا الكلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه .
(أو منهوماً باللذّات) أي حريصاً عليها منهمكاً فيها ، والمنهوم في الأصل : هو الذي لا يشبع من الطعام .
(سلس القياد) أي سهل الانقياد من غير توقّف .
(أو مغرًى بالجمع والادّخار) أي شديد الحرص على جمع المال وادّخاره ، كأنّ أحداً يغريه بذلك ويبعثه عليه ، والمغرم بمعناه .
(ليسا من رعاة الدين في شي‏ء) الرعاة - بضمّ أوّله - : جمع راع بمعنى الوالي ، أي : ليس المنهوم والمغرّى المذكوران من ولاة الدين ، وفيه إشعار بأنّ العالم الحقيقيّ دالٌّ على الدين وقيّم عليه .
(أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة) أي الراعية أشبه الأشياء بهذين الصنفين .
(كذلك يموت) أي مثل ما عدم من يصلح لتحمّل العلوم تعدم تلك العلوم أيضاً وتندرس آثارها بموت العلماء العارفين ؛ لأنّهم لا يجدون من يليق لتحمّلها بعدهم .
قال البهائيّ :
قسّم عليه السلام الذين ليس لهم أهليّة تحمّل العلم إلى أربعة أقسام :
أوّلها : جماعة فسقة لم يريدوا بالعلم وجه اللَّه سبحانه ، بل إنّما أرادوا به الرياء والسمعة ، وجعلوه شبكة لاقتناص اللذّات الدنيّة والمشتهيات الدنيويّة .
وثانيها : قومٌ من أهل الصلاح ولكن ليس لهم بصيرة في الوصول إلى أغواره والوقوف على أسراره ، بل إنّما يصلون إلى ظاهره ، فتنقدح الشكوك في قلوبهم من أوّل شبهة تعرض لهم .
وثالثها : جماعة لا يتوصّلون بالعلم إلى المطالب الدنيويّة ولا هم عادمون للبصيرة في إخفائه بالكلّيّة ولكنّهم اُسراء في أيدي القوى البهيميّة ، منهمكون في الملاذّ الواهية الوهميّة .
ورابعها : طائفة سلموا من تلك الصفات الذميمة وسلكوا الطريقة المستقيمة لكنّهم لم يخلصوا من صفة خسيسة اُخرى ، وهي حبّ المال وادّخاره وجمعه وإكثاره .
وبالجملة ، فلابدّ لطالب العلم الحقيقيّ من تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف ؛ إذ العلم عبادة القلب وصلاته ، وكما لا تصحّ الصلاة - التي هي وظيفة الجوارح‏الظاهرة - إلّا بتطهير الظاهر من‏الأحداث‏والأخباث،كذلك لا تصحّ عبادة القلب وصلاته إلّا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف‏۴ .
ثمّ لمّا كانت سلسلة العلم والعرفان لا تنقطع بالكلّيّة مادام نوع الإنسان ، بل لابدّ من إمام حافظ للدين في كلّ زمان كما تقتضيه قواعد أهل الإيمان استدرك كلامه عليه السلام بقوله : «اللّهمَّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة» ، وفي النهج : «بحججه إمّا ظاهراً مشهوراً» كأميرالمؤمنين عليه السلام «أو خائفاً مغموراً» كالقائم عليه السلام أو كباقي الأئمّة عليهم السلام المستورين للخوف والتقيّه . ويحتمل أن يكونوا داخلين في الظاهر المشهور .
(وكم وأين) استبطاء لمدّة غيبة القائم عليه السلام وتبرّمٌ من امتداد دولة أعدائه ، أو إبهام لعدد الأئمّة عليهم السلام وزمان ظهورهم ومدّة دولتهم ؛ لعدم المصلحة في بيانه .
ثمّ بيّن عليه السلام قلّة عددهم وعظم قدرهم ، وعلى الثاني يكون الحافظون والمودعون : الأئمّة ، وعلى الأوّل يحتمل أن يكون المراد شيعتهم الحافظون‏۵لأديانهم في غيبتهم .
(هجم بهم العلم) أي أطلعهم العلم اللدنيّ .
(على حقائق الأشياء)۶ دفعة وانكشف لهم حجبها وأستارها .
(وباشروا روح اليقين) الرَوح بالفتحة : الراحة والرحمة والنسيم ، أي وجدوا لذّة اليقين ، وهو من رحمته تعالى ونسائم لطفه .
(واستلانوا ما استوعره المترفون) الوعر من الأرض : ضدّ السهل ، والمترف : المنعّم ، من الترفّه بالضمّ وهي النعمة ، أي استسهلوا ما استصعبه المتنعّمون من رفض الشهوات وقطع التعلّقات وملازمة الصمت والسهر والجوع والمراقبة .
(وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون) من الطاعات والقربات والمجاهدات في الدين .
و(صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلّقة بالمحلّ الأعلى) أي وإن كانوا بأبدانهم مصاحبين لهذا الخلق ولكن بأرواحهم مباينون عنهم ، بل أرواحهم متعلّقة بقربه ووصاله تعالى ، فهم مصاحبون بأشباحهم لأهل هذه الدار ، وبأرواحهم للملائكة المقرّبين الأبرار .
(اُولئك خلفاء اللَّه في أرضه) تعريف المسند إليه بالإشارة للدلالة على أنّه حقيق بما يسند إليه بعدها بسبب اتّصافه بالأوصاف المذكورة قبلها ، كما قالوه في قوله تعالى : « أُوْلائِكَ عَلَى‏ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَ أُوْلائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »۷ .
(هاي هاي) في النهج : «آه آه» وفي بعض النسخ : «هاه هاه» وعلى التقادير الغرض إظهار الشوق إليهم والتوجّع على مفارقتهم ، وإن لم يرد بعضها في اللغة ففي العرف شائع ، ولا ريب في شدّه شوقه إليهم ، فإنّ الجنسيّة علّة الضمّ ، وهو عليه السلام اُستاذ العارفين وقدوة الواصلين بعد سيّد المرسلين ، فلا جرم إذا اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه وأصحاب طريقته .۸

1.الرعد (۱۳) : ۶ .

2.البقرة (۲) : ۱۸۵ .

3.النحل (۱۶) : ۲۱ .

4.الأربعون حديثاً للبهائي ، ص ۴۲۹ - ۴۳۰ .

5.كذا في النسخ ، والمناسب : «الحافظين» .

6.كذا هنا وفي المصدر ، وفي متن الحديث : «حقائق الاُمور» .

7.البقرة (۲) : ۵ .

8.جاء أكثر هذا الشرح في بحار الأنوار ، ج ۱ ، ص ۱۸۹ - ۱۹۴ ؛ والأربعين للشيخ البهائي ، ص ۴۲۵ - ۴۳۱ .

تعداد بازدید : 10911
صفحه از 719
پرینت  ارسال به