وصل [ احتجاج المخالفين في عصمة الأنبياء عليهم السلام ]
احتجّ المخالفون بما نقل من أقاصيص الأنبياء وما شهد به كتاب اللَّه وسنّة نبيّه من نسبة المعصية والذنب إلى الأنبياء وتوبتهم واستغفارهم ونحو ذلك .
والجواب عنه :
أمّا إجمالاً فالآحاد منه لا يعارض المقطوع ، والمتواتر والمنصوص في القرآن محمول على ترك الأولى وفعل خلافه .
وأمّا تفصيلاً فهو مذكور في كتب أصحابنا ، سيّما في كتاب تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى علم الهدى ولنشر إجمالاً إلى التفصيل ، فنقول :
قالوا في قصّة آدم سبع دلالات على معصيته :
الاُولى : كونه عاصياً ؛ لقوله تعالى : « وَ عَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى »۱ .
الثانية : الغيّ ؛ لقوله : « فَغَوَى » وهو ضدّ الرشد .
والثالثة : التوبة ؛ لقوله : « فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ »۲ ، وهي لا تكون إلّا عن ذنب .
والرابعة : ارتكاب النهي في قوله تعالى : « أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ »۳ .
والخامسة : سمّاه ظالماً في قوله تعالى : « فَتَكُونَا مِنَ الظَّلِمِينَ »۴ ، وهو سمَّى نفسه ظالماً في قوله : « رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا »۵ .
والسادسة : كونه خاسراً لولا مغفرة اللَّه ؛ لقوله : « وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ »۶ ؛ وذلك يقتضي كونه ذا كبيرة .
السابعة : أنّه اُخرج من الجنّة .
والجواب إجمالاً : أنّ النهي للتنزيه ، وإنّما سمّي ظالماً وخاسراً ؛ لأنّه ظلم نفسه وخسر حظّه بترك ما هو الأولى له .
وأمّا إسناد الغيّ والعصيان إليه فسيأتي تأويله .
وإنّما اُمر بالتوبة تلافياً لما فات منه ، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى ؛ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين .
وأمّا قوله تعالى : « هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَ حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا » إلى قوله : « جَعَلَا لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتاهُمَا »۷قالوا : هذه الكنايات كلّها عائدة إليهما ، فيقتضي صدور الشرك عنهما .
والجواب : أنّه لم يقل أحد في حقّ الأنبياء الشرك في الاُلوهيّة مطلقاً ، فالوجه أن يقال : لا نسلّم أنّ النفس الواحدة هي آدم ، وليس في الآية ما يدلّ عليه ، بل قيل : الخطاب لقريش ، وهم آل قصيّ ، والنفس الواحدة قصيّ ومعن « وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا »جعلها من جنسها عربيّة قرشيّة ، وإشراكهما فيما آتاهما اللَّه تسمية أولادهما بعبد مناف ، وعبد العزّى وعبد الدار ، أو يقال : إنّه على حذف مضاف ، أي : جعلا أولادهما شركاء له ، بدليل قوله تعالى : « فَتَعَلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ »۸ ، أو المراد ما وقع له من الميل إلى طاعة الشيطان ووسوسته ميلاً نفسانيّاً .
وأمّا الشبهة في حقّ نوح فهو أنّ قوله تعالى : « يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ »۹تكذيب له في قوله : « إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى »۱۰ .
والجواب أنّه ليس للتكذيب ، بل للتنبيه على أنّ المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح ، أو المعنى : أنّه ليس من أهل دينك بحسب القرابة المعنويّة وإن كان ابنك صورة .
وأمّا الشبهة في حقّ إبراهيم عليه السلام فهو أنّه كذبَ في قوله : « هَذَا رَبِّى »۱۱ ، وقوله : « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ »۱۲ ، وقوله : « إِنِّى سَقِيمٌ »۱۳ .
والجواب : أنّ الأوّل على سبيل الفرض والتقدير كما يوضع الحكم الذي يراد إبطاله ، أو على الاستفهام الإنكاريّ ، أو على أنّه كان في مقام النظر والاستدلال .
والثاني على سبيل التعريض والاستهزاء .
والثالث على أنّ به مرض الهمّ والحزن من عنادهم ، أو الحمّى - على ما قيل - .
وأمّا الشبهة في حقّ يعقوب فمن جهة الإفراط في المحبّة والحزن الشديد والبكاء .
والجواب : أنّه لا معصية في ميل النفس سيّما إلى من به آثار الخير والصلاح وأنواع المعارف والكمال ، ولا في بثّ الشكوى والحزن إلى اللَّه .
وأمّا من جهة يوسف فبالهمّ المشار إليه في قوله تعالى : « وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا »۱۴ ، ومن جهة جعل السقاية في رحل أخيه ، والرضا بسجود إخوته وأبويه له .
والجواب : أنّ المراد : « وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ » والبرهان هو ما عنده من الصوارف العقليّة الزاجرة للنفس عن فعل القبيح ، أو المراد من الهَمّ : الميل الشهويّ الحيوانيّ الموجود في الطبايع البشريّة ، ولولا الزاجر العقليّ والشرعيّ لما انتهى عن كلّ ما يمكنه من القبايح ، ولولا المعرفة الكافلة للقوّة العقليّة المنوّرة بحقيقة التقوى لوقع منه فعل ما لا ينبغي أحياناً ، وليس المراد بالهمّ بالمعصية القصد إليها .
ومن جوّز صدور الذنب عن الأنبياء فقد فسّر «همّ» يوسف عليه السلام بأنّه حلّ سراويله وجلس منها مجلس المجامع ، وفسّر البرهان بأنّه سمع صوتاً : إيّاك وإيّاها ، فلم يرتدع ، ثمّ سمعه ثانياً ، فلم ينته ، ثمّ سمعه ثالثة : أعرض عنها ، فلم ينزجر حتّى تمثّل له يعقوب عاضّاً على أنملته .
وقيل : سمع صوتاً : يا يوسف ، لا تكن كالطائر كان له ريش فلمّا زنى عاد لا ريش له .
وقيل : بدت كفّ فيما بينهما مكتوب فيها : « وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَفِظِينَ * كِرَامًا كَتِبِينَ »۱۵فلم ينصرف عمّا هو عليه ، ثمّ رأى فيها : « وَ لَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً »۱۶ فلم ينته ، ثمّ رأى فيها : « وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ »۱۷ فلم يتأثّر من ذلك ، فقال اللَّه سبحانه لجبرئيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحطّ جبرئيل وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ؟ ! .
فانظر إلى هؤلاء الفسقة الفجرة كيف نسبوا إلى نبيّ اللَّه ما يستقبح نسبته إلى أرذل خلق اللَّه .
ولقد أجاد الإمام الرازيّ في هذا المقام حيث قال :
إنّ الذين لهم تعلّق بهذه الواقعة هم : يوسف والمرأة وزوجها والنسوة والشهود وربّ العالمين وإبليس ، وكلّهم قالوا ببراءة يوسف عن الذنب ، فلم يبق لمسلم توقّف في هذا الباب :
أمّا يوسف فلقوله : « هِىَ رَ وَدَتْنِى عَن نَّفْسِى »۱۸ وقوله : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ »۱۹ .
وأمّا المرأة فلقولها : « وَ لَقَدْ رَ وَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ »۲۰وقالت : « الَْنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَ وَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ »۲۱ .
وأمّا زوجها فلقوله : « إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ »۲۲ .
وأمّا النسوة فلقولهنّ : « امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَ وِدُ فَتاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ »۲۳ وقولهنّ : « حَشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ »۲۴ .
وأمّا الشهود فقوله تعالى : « وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ »۲۵ .
وأمّا شهادة اللَّه بذلك فقوله تعالى : « كَذَ لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَآءَ »۲۶
1.طه ( ۲۰ ) : ۱۲۱ .
2.البقرة ( ۲ ) : ۳۷ .
3.الأعراف ( ۷ ) : ۲۲ .
4.البقرة ( ۲ ) : ۳۵ .
5.الأعراف ( ۷ ) : ۲۳ .
6.الأعراف ( ۷ ) : ۱۸۹ - ۱۹۰ .
7.الأعراف ( ۷ ) : ۱۹۰ .
8.هود ( ۱۱ ) : ۴۶ .
9.هود ( ۱۱ ) : ۴۵ .
10.الأنعام ( ۶ ) : ۷۶ .
11.الأنبياء ( ۲۱ ) : ۶۳ .
12.الصافّات ( ۳۷ ) : ۸۹ .
13.يوسف ( ۱۲ ) : ۲۴ .
14.الانفطار ( ۸۲ ) : ۱۰ - ۱۱ .
15.الإسراء ( ۱۷ ) : ۳۲ .
16.. البقرة (۲ ) : ۲۸۱ .
17.يوسف ( ۱۲ ) : ۲۶ .
18.يوسف ( ۱۲ ) : ۳۳ .
19.يوسف ( ۱۲ ) : ۳۲ .
20.يوسف ( ۱۲ ) : ۵۱ .
21.يوسف ( ۱۲ ) : ۲۸ .
22.يوسف ( ۱۲ ) : ۳۰ .