تحقيق أنيق [الكلام في فضل الأنبياء على الملائكة]
لا خلاف بين أصحابنا الإماميّة رضوان اللَّه عليهم في أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ، ووافقنا على ذلك أكثر الأشاعرة ، وخالف في ذلك طائفة من المعتزلة وغيرهم من الجمهور ، فقالوا : إنّ الملائكة أفضل ، وستأتيك أدلّة الطرفين .
وأمّا التفاضل بين الأنبياء فاُولوا العزم أفضل من غيرهم ، ونبيّنا أفضل اُولي العزم ، وبعده أميرالمؤمنين وأولاده المعصومون كما نطق به هذا الحديث الشريف وغيره من الأخبار المرويّة من طرقنا .
وأمّا التفاضل بين الأئمّة فأميرالمؤمنين أفضلهم وبعده الحسنان كما دلّت عليه جملة من الأخبار ، وأمّا التسعة الطاهرة فالأخبار في تفضيلهم ظاهرها مختلف ، ففي بعضها تسعة أئمّة هم في الفضل سواء ، وفي بعضها تسعة أفضلهم قائمهم ، وإيكال علم ذلك إليهم عليهم السلام أحوط وأولى .
ثمّ لنذكر لك أدلّة القائلين بأنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ، وهم أصحابنا وأكثر الأشاعرة ، وأدلّة القائلين بالعكس ، على طريق أنيق وطرز رشيق قلّما يوجد في مؤلَّف من كتب الأصحاب ، فنقول :
احتجّ الأوّلون بوجوه :
الأوّل : أنّ اللَّه تعالى أمر الملائكة بالسجدة لآدم عليه السلام وثبت أنّه لم يكن كالقبلة ، بل كانت السجدة في الحقيقة له ، وهي نهاية التواضع ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدنى قبيح في العقول ، فدلّ ذلك على أنّ آدم أفضل منهم .
الثاني : أنّ آدم كان أعلم ، والأعلم أفضل كما دلّت عليه الآية .
الثالث : أنّ اللَّه تعالى جعل آدم خليفة في الأرض ، والمراد منه الولاية ؛ لقوله تعالى : « يَدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »۱ ، ومعلوم أنّ أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مقامه في الولاية والتصرّف وخليفة له ، فدلّ على أنّ آدم أشرف الخلائق ، ويتأكّد هذا بقوله تعالى : « وَ هُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ »۲ ، وبقوله : « هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا »۳ ، فبلغ آدم في منصب الخلافة أعلى الدرجات ، فالدنيا خلقت متعة لبقاءه ، والآخرة مملكة لجزائه ، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبّر عليه ، والجنّ رعيّته ، والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثمّ صار بعضهم حافظين له ولذرّيّته ، وبعضهم منزلين لأرزاقهم ، وبعضهم مستغفرين لزلّاتهم .
الرابع : قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَ هِيمَ وَءَالَ عِمْرَ نَ عَلَى الْعَلَمِينَ »۴ والعالم عبارة عن كلّ ما سواه تعالى ، فمعنى الآية : أنّ اللَّه اصطفاهم على المخلوقات ، فكانوا أفضل من الملائكة .
لا يقال : إنّه منقوض بقوله تعالى : « يَبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ »۵ ؛ إذ [لا] يلزم أن يكونوا أفضل من محمّد وآله [فكذا هنا] .
لأنّا نقول : الخطاب بهذه الآية كان قبل وجوده صلى اللَّه عليه وآله وجبرئيل كان موجوداً ، فيلزم أن يكونوا قد اصطفاهم على الملائكة دون محمّد وآله عليهم السلام .
على أنّ تلك الآية لا مخصّص لها ، وهذه قد خصّصت بدليل منفصل .
الخامس : قوله تعالى : « وَ مَآ أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَلَمِينَ »۶ ، والملائكة من جملة العالمين ، فكان صلى اللَّه عليه وآله رحمة لهم فوجب أن يكون أفضل منهم .
وقد يقال : أنّ كونه صلى اللَّه عليه وآله رحمة لهم لا يلزم كونه أفضل منهم كما في قوله : « فَانظُرْ إِلَى ءَاثَرِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ »۷ ، مع أنّه لا يمتنع أن يكون صلى اللَّه عليه وآله رحمة لهم من وجه وهم رحمة له من آخر .
السادس : أنّ عبادة البشر أشقّ فوجب أن يكون أفضل ، أمّا الأوّل فلوجوه :
منها : كثرة الموانع لهم عن الطاعات وكثرة الدواعي لهم إلى المعاصي ، فالفعل مع المعارض القوي أشدّ منه بدون المعارض ، والمبتلى بكثرة الدواعي والشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ .
ومنها : أنّ شبهاتهم أكثر والحجب بينهم وبين المعبود أكثر ، فاحتاجوا إلى الاستدلال وبذل الجهد .
ومنها : أنّ الشياطين مسلّطون عليهم بالوسوسة والإغواء ، بل جارون في عروقهم ودمائهم بخلاف الملائكة ، وإذا ثبت ذلك كانوا أكثر ثواباً من الملائكة ؛ لقوله صلى اللَّه عليه وآله : « أفضل الأعمال أحمزها » .
السابع : أنّ اللَّه تعالى خلق الملائكة عقولاً فقط ، وخلق البهائم شهوات بلا عقول ، وخلق الإنسان جامعاً للأمرين ، فصار بسبب العقل فوق البهيمة بدرجة لا حدّ لها ، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ، ثمّ وجدنا الآدميّ إذا غلب هواه عقله صار كالبهيمة أو دون البهائم ، كما قال تعالى : « إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً »۸ ، فوجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه كان فوق الملائكة .
أقول : وهذا المضمون إن كان رواية فبها ، وإلّا ففيه نظر لا يخفى .
الثامن : أنّ الملائكة حفظة وآدم محفوظ ، والمحفوظ أعزّ وأشرف من الحافظ .
وفيه نظر ، فإنّ الأمير الكبير قد يكون موكّلاً على المتّهمين من الجند .
التاسع : ما روي أنّ جبرئيل أخذ بركاب نبيّنا صلى اللَّه عليه وآله حتّى أركبه البراق ليلة المعراج ولمّا وصل إلى بعض المقامات تخلّف عنه جبرئيل وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت .
العاشر : ما روي أنّه صلى اللَّه عليه وآله قال : « إنّ لي وزيرين في السماء » ، وأشار إلى جبرئيل وميكائيل۹ .
واعلم أنّه وإن أمكن المناقشة في أكثر هذه الأدلّة إلّا أنّ العمدة في أدلّتنا إنّما هو إجماع الإماميّة وأخبارهم المستفيضة الصريحة ، ومنها الخبر المتقدّم .