441
مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار

مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
440

وتعود عالمة بكلّ خفيّة۱في العالمين فخرقها لم يرقع‏
وهي التي قطع الزمان طريقهاحتّى لقد غربت بغير المطلع‏
فكأنّه برق تألّق بالحمى‏ثمّ انطوى فكأنّه لم يلمع‏
أنعم بردّ جواب ما أنا فاحص‏عنه فنار العلم ذات تشعشع‏۲

شرح‏

الضمير المؤنّث في « هبطت » راجع إلى النفس ، وضمير المخاطب في إليك » « راجع إلى السائل أو إلى البدن .
« والمحلّ الأرفع » هو العالم الأعلى النوري المجرّد عن ملابسة الأجساد ، وقيل : هو أرفع درجة ومكانةً من عالم الجنان ؛ لأنّ الجنّة جسمانيّة ، وعالم النور المحض مجرّد عقليّ ، والنفس الآدميّة كان معدنها الأصلي أوّلاً عالم العلم الإلهي ، والفضاء الربّاني ، حيث كان مقدّراً في علمه تعالى أنّه جاعل في الأرض خليفة ، والعلم بالشي‏ء هو نحو من وجود ذلك الشي‏ء ، ثمّ نشأت بقدرته تعالى في عالم الأرواح العقليّة حينما صارت منفوخاً فيها روح اللَّه وسجود الملائكة ، ثمّ سكنت بأمر اللَّه تعالى في الجنّة ، وتناولت من ثمارها وأشجارها ، ثمّ هبطت بعد ذلك إلى القالب وبالقالب إلى هذا العالم .
و« ورقاء » حال من الضمير في « هبطت » وهو مبالغة في التشبيه حذفت أداته ، أي حال كونها كالورقاء في القوّة وخفّة الجناح في النزول ، والورقاء : الحمامة الرماديّة والخضراء ، واختار التشبيه بالحمامة دون غيرها من الطيور مع أشرفيّتها كالباشق‏۳والغرنوق‏۴ والبازي ؛ إمّا لما ورد في الشرع من وصف الحمام باللطايف المطلوبة في النفس كالاُنس‏۵ ، أو لما ورد أنّ أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر۶ ، أو لأنّ النفوس لتجرّدها تحبّ ذكاء الرائحة ؛ ولا أذكى من رائحة الحمام ؛ لأنّها لم تتنخّم ؛۷ لاختراقها صافي الهواء ، فاغرة أفواهها فتلطّف ، وشأن الهواء التلطيف .
« ذات تعزّز وتمنّع » إمّا أن يكون المعنى : ذات تعزّز وتمنّع من دخول هذا الجسد لدخولها إليه مكرهة ، وإمّا أن يكون المعنى : ذات تعزّز وتمنّع وحصانة من الشوائب المغيّرة لها ؛ لاتخاذها هذا البدن محلّاً كالقفص للطائر ، والبيت للإنسان ، تبلغ به مآربها الموجبة لارتفاعها مآلاً .
والكاف في قوله : « إليك » إن اُريد نفسك فيراد من الورقاء : الروح ، ومن المحلّ الأرفع : العالم القدسي العقلي ، وإن اُريد بها : بدنك فالورقاء هي النفس ، والمحلّ الأرفع : هو عالم الجنّة ، والثاني أنسب بما بعده .
وقوله : « محجوبة عن كلّ مقلة عارف » البيت ، حاصله : أنّ النفس لتجرّدها محجوبة متبرقعة عن الأبصار ، ولنورانيّتها وسفور وجهها مكشوفة للبصائر ، والسفر : كشف الوجه ، والتبرقع : ستره ، وتقديم لفظ الكلّ عليها لرعاية الوزن .
« وصلت على كره إليك » إمّا منها فقط أو من الجسم فقط أو منهما معاً ، لا سبيل إلى الثاني ؛ إذ لا شعور له ، ولا إلى الثالث لذلك أيضاً ، فتعيّن الأوّل ، لكراهتها مفارقة الأنوار الباهرة ، والتعلّق بظلمات كثيفة ، وهي مع كراهتها التعلّق بك أيّها البدن - لما ذكر - ربّما كرهت فراقك إذا عرض لك أسباب الاضمحلال وانحلال الأجزاء ، فاشمأزّت من التألّم ، وكرهت تلك العوارض ، ومالت إلى جلب الصحّة ، وهي « ذات تفجّع » على فراقك إذا وعدت بالمفارقة ، فكيف إذا وقعت بالفعل ؟ وهذا من الغرائب ، تدخل هذا البدن مكرهة وتخرج منه مكرهة وتتأسّف على فراقه .
« أنفت » أي أعرضت عن الدخول إلى هذا الهيكل ؛ احتقاراً له لعدم مناسبة بينها وبينه ؛ إذ كانت من العالم العلوي النوراني ، وهو من العالم السفلي الظلماني « فما ألفت » به ، وفي بعض النسخ : « وما سكنت » ، أي لم ترض للسكون فيه .
« فلمّا واصلت » أي واصلت الهيكل واتّصلت به ألفت مع ما كان منها من الإعراض والأنفة ، وفي بعض النسخ : « كرهت مجاورة الخراب البلقع » وهو كناية عن البدن ، والبلقع مبالغة في خرابه ؛ لأنّه المقفر الخالي من العمارة .
ومن الغريب أنّ الشيخ الرئيس أسند الأفعال إليها حيث قال : أنفست وما أنست وواصلت وألفت ، وهذا كلّه يقتضي اختيارها في تلك الاُمور ، والحال أنّها مجبورة في كلّ ذلك مكرهة ، وإلّا لاستقلّت بالتدبير ، ولزم حينئذٍ أن لا اتّصال لمضادّته الاُنفة ، وأن لا مفارقة لمعاكسته الاُلفة .
وسمّى الشيخ اتّصال النفس بالبدن : مجاورة ، وفيه ما فيه ، فقد قال قوم به ، وردّ بأنّه يلزم انفكاكها كلّ وقت اختياراً والواقع خلافه ، وقيل باتّصالها كالنار في الشمعة ، وردّ بأنّه يلزم عليه أنّه لو نفخ إنسان في وجه آخر افترقا كما يكون عند إرادتنا إطفاء الشمعة .
وقال فيثاغورس وتلميذه سقراط بأنّ كيفيّة التعلّق واقع كالسريان الصادر من نحو الدهن في الزيتون والسمسم للتدبير ولو بالأشعّة ، وأظنّها حين ألِفَتْكَ أيّها البدن ، وكرهت فراقك نسيت عهوداً بالحمى ومنازلاً بفراقها ، لم تقنع بذلك حتّى ألفت هذا البدن ولم ترض بفراقه .
وحاصل الكلام : أنّ العناية الأزليّة قد جرت في الأزل وتعلّقت بهبوط النفس الإنسانيّة من العالم الأرفع النوري إلى الهيكل المزاجي ، فنزلت النفس من جوّ الفضاء العقلي والعالم الأعلى السماوي إلى وكر البدن الظلماني على سبيل الكراهة والصعوبة ؛ لأنّ مفارقة الوطن الأصلي والمسكن الحقيقي - سيّما عالم القدس النوري - يكون في غاية الصعوبة ، فارقت لكن بحكم اللَّه الذي لا رادّ لحكمه فارق العالم الأعلى كرهاً ، وتعلّقت بالوكر الأدنى جبراً وقهراً ، وانفصلت من الطهارات والتقدّسات النوريّة ، وتعلّقت بالأدناس والألواث البدنيّة ، والقاذورات الطبيعيّة ، وهبطت في قعر السعير الظلماني ، ومهوى الحضيض الجسماني والجحيم النفساني ، مقيّدة بالسلاسل والأغلال في سجون التعلّقات ، أسيرة بأيدي الشياطين والأوهام والخيالات ، محترقة بنيران الشهوات ، ملسوعة بسموم العقارب والحيّات .
فلمّا قيّدت كالحمامة بشبكة البدن والقوى أَنِسَتْها بعدما كرهتها ، وألفت بها بعدما أنفت منها ، ونسيت عالمها بعدما ذكرت ، كما قال تعالى : « فَنَسِىَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا »۸ ، وقوله تعالى : « نَسُواْ الذِّكْرَ »۹ ، وقوله تعالى : « نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ »۱۰ ، ورضيت بهذه الحياة الدنيا ، واطمأنّت بها ، ويئست من الآخرة ، وأخلدت إلى الأرض واتّبعت هواها ، كما قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَ رَضُواْ بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ اطْمَأَنُّواْ بِهَا وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَتِنَا غَفِلُونَ »۱۱ ، وقال تعالى : « قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الْأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَبِ الْقُبُورِ »۱۲ .
فلمّا جهل أبناء الدنيا أحوال الآخرة ومثوباتها اشتغلوا عن ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذّاتها وشهواتها ، وتمنّوا الخلود فيها ؛ لأنّها محسوسة لهم يشاهدونها بحواسّهم ، وتلك الدار ونعيمها ولذّاتها ومشتهياتها غايبة عنهم وعن إدراك حواسّهم ، فتركوا البحث عنها والرغبة فيها والطلب لها والسعي إلى ذكر اللَّه وذكرالآخرة ، فلا جرم إذاً احتاجت عند ذلك نفوسهم إلى من يذكّرها العهد القديم ، ويجدّد عليها الذكر الحكيم ، ويشوّقها إلى ما عند اللَّه ويسوقها من دار الدنيا إلى الدار الآخرة ، فالرحمة الإلهيّة أجادت بإرسال الرسل إليها وإنزال الكتب عليها ، فمنهم من آمن بهم لبقاء نور الفطرة في قلبه ، ومنهم من صدّ عنهم لانطماس نور فطرته وتراكم ظلمات المعاصي في قلبه .
« حتّى إذا اتّصلت بهاء هبوطها » الأتمّ مكاناً ، ومعنى هبوطها : الاتّصال الحقيقي لا غيره ، من أوّل غاية مبدء (ميم) مقرّها الذي هو « مركزها بذات الأجرع » وهو محلّ بوادي العقيق ، تهبّ فيه رياح ليّنة ، قد مزجت بما رُوّح به البيت الشريف ، وكانت العرب تتّخذه مَنزهاً ومَربعاً ، ولها فيه المآرب العظيمة ، وصار كلّ من له تعشّق في شي‏ء من ناطق أو صامت نامياً أو جامداً كنّى عنه بذلك ، ولعلّ الشيخ كنّى به هنا عن البدن لشرفه ودقّة صنايع تركيبه ، واشتماله على العالم الكبير الذي كان موطن النفس ، وقد سمّاه سقراط : الهيكل القدسي ، وهرمس الأوّل : بيت اللَّه .
وقد قيل في السرّ في تعبير الشيخ الرئيس بالهاء والميم وجوه :
الأوّل : أنّه عبّر بهما جلباً للقلوب ، وطلباً للإصغاء الذي نتيجته تحصيل المطلوب .
الثاني : أنّهما إشارة إلى الهمّ الذي حصل لها ، والهمّة المنتجة لتحصيلها ، ممّا حصلت فيه مابين الهبوط والوصول ، والمركز والمحيط ، وذلك لا يكون إلّا بأعلى الهمم ، فيكونان إشارة إلى الأمر بالهمّة أو إلى « مه » أي : اسكت ناصّتاً لما يتلى عليك ، أو اكفف عن هذه ، فإنّه لا أدب أشدّ من السكوت عن حِكم اللَّه الخفيّة التي لا تدركها العقول القاصرة والأفهام الحاسرة .
« علقت بها » علاقة ثبتٍ واتّصال .
« ثاء الثقيل » وهو المركز الأخسّ ، يعني التراب .
« فأصبحت » من الاستصباح ، أي الوضوح ، ويحتمل على بُعدٍ أن يكون من الصبح .
« بين المعالم » التي هي رسوم الاُصول وقواعد التركيب ، كالعظام والغضاريف ، تشبيهاً لها بعالم المنازل من العمارات كالعُمدات .
« والطلول » وهي بقايا المنازل ، والمراد بها هنا من أجزاء البدن ما كان صلباً كالفقرات وعظام الفخذ .
« الخضّع » البالية المضمحلّة ؛ إذ لا معنى للخضوع الأصلي هنا .
« تبكي » على فراقه وتندب حاله .
« إذا ذكرت عهوداً بالحمى » يعني البدن .
« بمدامع تهمي » أي تنهمل وتنزل بقوّة وانحدار .
« ولما تقلع » لم تدع البكاء ، بل هي مقيمة عليه .
« وتظلّ » أي تدوم على إقامة المأتم .
« ساجعة » منشدة للكلمات المهيّجة للاشتياق المذكّرة للفراق .
« على الدمن » وهي بقايا الديار .
« التي دُرست بتكرار الرياح الأربع » الصبا : وهي من مطلع الشمس ونقطة الاعتدال إلى الجدي ، حارّة يابسة ، والشمال : من الجدي إلى نقطة الغرب ، باردة يابسة ، والجنوب : من نقطة الاعتدال المشرقيّة إلى سهيل ، حارّة رطبة ، ومنها إلى النقطة المغربيّة الدبور .
« إذ عاقها » عن مطالبها التي هي المراقي إلى سعادة الأبد والنعيم السرمد .
« الشَرَك » الذي مدّت حبائله واختفت غوائله ، واستعار للبدن لفظ الشَرَك .
« الكثيف » لكونه مانعاً من الوصول .
« وصدّها نقص » فاحش عظيم من الانهماك في اللذّات والإقبال على الشهوات .
« عن الأوج الفسيح المربع » الذي صحّ هواؤه وعذب ماؤه وعلا بناؤه ، وحاله حال الربيع من الاعتدال ، وأراد به العالم العلوي ، وقد اُورد هنا إشكالات :
الأوّل : أنّ النفس إن كان سبب إيداعها في هذا الهيكل اكتساب الكمال ففيه : أنّه قد ثبت أنّها من الفيض الأعظم حيث مجمع الكمالات ، والسفليّات ما فيها ذرّة من الكمال إلّا بمعاونة العلويّات ، فكيف يقال ذلك ؟ وعلى أيّ شي‏ء أسفها وهي أشدّ تحصيلاً لمطالبها حين كانت مجرّدة عن البدن ، وعند اجتماعها مع البدن يكون الاكتساب مع الاشتغال بتدبيره أشقّ ؟
لا يقال : إنّ الاكتساب بغير آلة لا يتمّ ، وهذا الهيكل آلة فلابدّ منه .
لأنّا نقول : يلزم على هذا خلوّ الروحانيّات عن الكمال ، وهو ممنوع .
الثاني : لا ريب في استحالة بقاء جوهر بلا عرض آناً مّا ، واجتماع عرضين كذلك ، فحين تحقّق مفارقة واحد ، فإن خرج قبل دخول الآتي لزم خلوّ جوهر عن عرض ، أو دخل قبل الخروج اجتمعا ، والكلّ محال .
الثالث : النفس إن قيل بتعدّدها على بدن واحد تدريجاً من أعلى إلى دون أو عكسه ، فكيف ينتهي بها الحال ؟ وهذا هو النسخ الذي قام الدليل على بطلانه ، وإن انتقلت متصاعدة فهذا هو المسخ ، وغايته أن ينتهي الفيل إلى بعوضة كما عليه الباطنيّة ، وإن تعدّدت بلا نهاية ، أو بها وتكون الإناطة بربّ الطالع وصاحب البيت فهذا هو الرسخ ؛ لثبات كلٍّ على وجهٍ لا قهر فيه ، ويلزم حينئذٍ أن ترى إنساناً واحداً آدميّاً وحماراً أو كلباً وطائراً ووحشاً مزاجاً وصورةً ، وهو واضح البطلان ، وإن كانت النفس لا تتعدّد والبدن بالعكس ولها تدبير الكثرة على أحسن حالة ، لا يختلّ فيها ، فهذا هو الفسخ ، ولوازمه اختلال مقتضيات أحكام الطوالع ، وقد فرضوها دائمة النظام ، هذا خلف .
« حتّى إذا قرب المسيح من الحمى » يعني أنّها مستمرّة تبكي على ما فاتها من اكتساب الفضائل ، وتظلّ ساجعة بالأشعار والأصوات المشجية للشرك الذي عاقها ، والنقص الذي صدّها ، إلى أن قرب منها المسيح ، أي السيح أو السير إلى لاحمى ، وهو الموطن الأصلي والمحلّ الحقيقي الذي لا يأسف ساكنوه على شي‏ء ، ولا يفوتهم شي‏ء ، ولا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون .
« ودنى الرحيل » إلى ذلك .
« الفضاء الأوسع » بسعة الأنوار وصفاء الأرواح ، وعدم التنافس والتحاسد والتقاطع .
« وغدت » أي أخذت في قطع العلائق والأسباب غدوة كما هو شأن من يريد إنجاز الاُمور ؛ ولأنّ التبكير شأن من يبرأ عن الكسل ؛ لأنّ النفوس حين تهب من النوم يقارنها النشاط ، لانحلال البخار الذي اجتمع دورها۱۳عند إرادة الراحة ، ولذا ورد في الشريعة : « بورك لاُمّتي في بُكورها »۱۴ .
« مفارقة لكلّ مخلف عنها » قلّ أو كثر ؛ لتوجّهها إلى نور الأنوار الفالق حُجُب الكثافة عن المجرّدات الفاصلة .
« حليف » أي حال كونه محالفاً ومعاهداً .
« الترب » أي التراب الساقط من طبقات الأرض كلّها لعدم الانتفاع به .
« غير مشيّع » غير مودّع ؛ إذ لا يودّع ولا يشيّع إلّا ما كان ذا خطر وعظمة .
« سجعت » بالأغاني على المغاني وما توقّت من محاسن المعاني ، إمّا سروراً إن كانت من المقرّبين وأصحاب اليمين ، أو حزناً إن كانت من المكذِّبين الضالّين .
« وقد كشف » لها « الغطاء فأبصرت » هناك من القرب والسخط والسعادة والشقاء « ما ليس يدرك بالعيون الهجّع » ولا خطر على قلب بشر .
« وغدت تغرّد » أي تسجّع في الغدوات « من فوق » أراد به مطلق العلوّ للمدح .
« ذروة » الشي‏ء : أمنعه وأعلاه ، من حيث ذلك ، لا من حيث مجرّد المكانيّة .
« شاهق » أي مرتفع ، وزاد في وصف العلوّ لتسمعَ النائي والبعيد ما تقوله .
« والعلم » النافع في الدين والدنيا « يرفع » منزلة « كلّ من لم يرفع » قدره بالمال ولا بالجاه ولا بالقوّة .
وحاصل مراد الشيخ : أنّ هذه النفس لمّا تألّفت مع هذا البدن واكتسبت بواسطة ما صارت به فاضلة غرّدت على فراقه معولة بالحزن والأسف ، فوق شاهق يسمعها منه من لم يسمع لو كانت في منخفض من الأماكن ، من حيث تمكين الهوى من رفع الأصوات والكلمات ، واحتجّ على قوله بالدليل كأنّه قيل له : بما ارتفعت إلى الشاهق المذكور ؟ فقال : بالعلم الذي يرفع كلّ من لم يرفع .
ثمّ التفت الشيخ سائلاً عن حال الهبوط والتركيب والسريان والخروج ونحوها قائلاً : « فلأيّ شي‏ء » من الأشياء وغرض من الأغراض يعود نفعه إلى الموجودات نفسها « هبطت » هذه النفس « من شامخ » متمحّض للخير والطهارة والتقديس والنزاهة « عال » من حيث المكان « إلى قعر » أي أسفل الأسفل من « الحضيض الأوضع » مبالغة في التسافل ؟ وما الحكمة في ذلك ؟
فإن قيل : عوقبت بذلك ، قيل : إنّها لم تعص بعد حتّى تعاقب ، ولا هي عرية من اللطائف التي اجتمعت فيها حتّى يقال : طهرت الأمكنة الرفيعة منها ، ولا تعشّق بينها وبين البدن حتّى يقال : حملها على ذلك الاشتياق ، ولا بينهما دقيقة مغناطيسيّة ، إلى غير ذلك ممّا يمكن تمحّله .
وغاية ما وقع للعارفين من الحكماء في الجواب عن هذا الإعضال أن قالوا : إنّها هبطت فتعلّقت بهذا الهيكل ؛ لتكمل بواسطته إن كانت من أهل الجدّ والاجتهاد ، فإذا حقّ التفريق كانت بما اكتسبت أهلاً لمخالطة الأرواح الفاضلة ، والعود إلى مألفها من حيث اُخذت ممتزجة بالرفيق الأعلى .
وهذا الجواب في غاية السخافة عند التحقيق ؛ إذ يلزم عليه أن يجب لكلّ نفس تعلّقت ببدن أن لا تفارقه حتّى تتكمّل ، وهو واضح الفساد .
وثانياً۱۵ : أنّها إذا كانت من الملأ الأعلى ، والمقام الأرفع الأسنى ، فكيف تكون ناقصة وقد فرضتموه كمالاً محضاً وخيراً بحتاً ؟ وما نحن فيه إمّا على الضدّ أو ممتزجاً ، وكلاهما لا يعطي تكميلاً .
وثالثاً : أنّ اللطائف إن كانت لا تتكمّل إلّا إذا تعلّقت بالكثايف ، فيجب أن تتعلّق سائر الروحانيّات بالأجسام الكثيفة ، وذاك محال .
ورابعاً : أنّ النفس إن كانت متقدّمة في الوجود على هيكلها فأين تكون حتّى يوجد أو العكس ؟ وعلى أيّ جهة ينتصب حتّى تأتيه ؟ وكيف يتكمّل في الأرحام ثمّ تتعلّق به ؟ وعلى أيّ وجه تقع المداخلة ؟ وإن كان وجودهما في زمن واحد فكيف يختلفان ؟ إذ المقتضي للنقص لا يقتضي الكمال والعكس .
وبالجملة ، فالأمر مشكل قد حارت فيه عقول الحكماء ، والجواب الحقيقي هو ما صدر من العالم بحقائق الأشياء كما هي حسبما تقدّم في الرواية .
ثمّ قال الشيخ : « إن كان أهبطها الإله » الحكيم القدير « لحكمة » خفيّة « طويت عن اللبيب » أي ذي اللبّ والعقل ، « الأروع » أي صاحب الروع والعقل ، أخذاً من قوله صلى اللَّه عليه وآله : « ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها »۱۶ .
« فهبوطها إن كان » لمصلحة تعود عليها وإن خفيت علينا لا محالة حينئذٍ يكون « ضربة لازب » ، أي أمراً لازماً حتماً مقتضياً ، أوجبه الحكيم ؛ « لتكون » بهذا الهبوط « سامعة » بحقائق الأصوات والعلوم والمعارف « لما لم تسمع » قبل ذلك ، ومبصرة لما لم تبصره ، ومكتسبة من العلوم والمعارف والحقائق التي تحصل لها باقتحام هذا الهيكل ما لم يكن لها قبل ذلك .
« وتعود » أيضاً « عالمة » كما غدت سامعة « بكلّ فضيلة » جليلة أو دقيقة « في العالَمَين » : عالم الغيب والشهادة ، أو عالم البساطة والتركيب ، أو عالم العقول والنفوس ، أو السماوات والأرضين ، أو الأفلاك والعناصر ، أو الكون والفساد .
« فخرقها » حينئذٍ الذي انفتح عليها بسبب مفارقة البدن وفوات تلك المطالب العظيمة والمنافع الجسيمة « لم يرقع » ؛ لعلمها بعدم إمكان عودها إليه مرّة اُخرى حتّى تكتسب ما فاتها من العلوم والمنافع ، ولذلك اشتدّ تأسّفها على مفارقته وكثر حنينها وبكاؤها وتغريدها عليه .
« وهي التي قطع الزمان » باضمحلال الأخلاط وقهر بعضها بعضاً « طريقها » التي كانت ناشئة عليه ، راجعة في التحصيل والتعويل عليه ، « حتّى لقد غربت بغير المطلع » ، فإنّ طلوعها من الأعالي وغروبها من الأسافل .
« فكأنّه » من حيث الأركان والأغراض والآلات « برق » أي ضوء قليل « تألّق » أي التمع « بالحمى ثمّ انطوى » عنه متوارياً ، « فكأنّها لم تطلع » لسرعة انقضائها .
« أنعم » أيّها السامع أو المخاطب « بردّ جواب ما أنا فاحص عنه فنار العلم » وإن خبت تبدو « ذات تشعشع » وضياء ، ولقد ظهر منه تحيّره في هذا الأمر والاحتياج إلى الجواب ، والأمر كذلك ، والجواب الحقيقي ما ذكره الإمام عليه السلام حسبما قدّمناه ممّا لم تحلم به أفكار الحكماء .

1.في شرح المؤلّف : « بكلّ فضيلة » .

2.القصيدة المزدوجة في المنطق ، ص ۲۳ - ۲۴ .

3.الباشق : نوع من جنس البازي من فصيلة العقاب النسريّة ، يشبه الصقر ، ويتميّز بجسم طويل ومنقار قصير بادي النقوش ، المعجم الوسيط ، ج ۱ ، ص ۵۸ (بشق) .

4.الغرنوق : طائر أبيض ، وقيل : هو طائر أسود من طيور الماء ، طويل العنق . لسان العرب ، ج ۱۰ ، ص ۲۸۷ ( غرنق ) .

5.انظر : وسائل الشيعة ، ج ۱۱ ، ص ۵۲۶ ، باب استحباب اتّخاذ الورشان وسائر الدواجن في البيت .

6.راجع : مستدرك الوسائل ، ج ۷ ، ص ۵۱۸ . وفيه : « أنّ من صام في السابع وعشرين من رجب ومات في يومه أو في ليلته مات شهيداً ويجعل اللَّه روحه في حواصل طير أخضر » .

7.لم تتنخّم : لم تتقيّأ .

8.طه ( ۲۰ ) : ۱۱۵ .

9.الفرقان ( ۲۵ ) : ۱۸ .

10.التوبة ( ۹ ) : ۶۷ .

11.يونس ( ۱۰ ) : ۷ .

12.الممتحنة ( ۶۰ ) : ۱۳ .

13.أي حولها . انظر : لسان العرب ، ج ۴ ، ص ۲۹۵ ( دور ) .

14.الخصال ، ج ۲ ، ص ۳۸۲ - ۳۸۳ ، ح ۵۹ ؛ منية المريد ، ص ۲۶۶ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱۱ ، ص ۳۵۷ ، ح ۱۵۰۰۵ .

15.لم يتقدّم عنه الأوّل بصورة : أوّلاً ، وإنّما كان الأوّل عند قوله : « إذ يلزم عليه أن يجب . . . » .

16.الكافي ، ج ۲ ، ص ۷۴ ، باب الطاعة والتقوى ، ح ۲ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۶ ، ص ۳۲۱ ، ح ۱ .

  • نام منبع :
    مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
    سایر پدیدآورندگان :
    السید عبد الله‏ شبّر، تحقیق: مجتبى محمودى
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 16130
صفحه از 719
پرینت  ارسال به