وتعود عالمة بكلّ خفيّة۱في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقهاحتّى لقد غربت بغير المطلع
فكأنّه برق تألّق بالحمىثمّ انطوى فكأنّه لم يلمع
أنعم بردّ جواب ما أنا فاحصعنه فنار العلم ذات تشعشع۲
شرح
الضمير المؤنّث في « هبطت » راجع إلى النفس ، وضمير المخاطب في إليك » « راجع إلى السائل أو إلى البدن .
« والمحلّ الأرفع » هو العالم الأعلى النوري المجرّد عن ملابسة الأجساد ، وقيل : هو أرفع درجة ومكانةً من عالم الجنان ؛ لأنّ الجنّة جسمانيّة ، وعالم النور المحض مجرّد عقليّ ، والنفس الآدميّة كان معدنها الأصلي أوّلاً عالم العلم الإلهي ، والفضاء الربّاني ، حيث كان مقدّراً في علمه تعالى أنّه جاعل في الأرض خليفة ، والعلم بالشيء هو نحو من وجود ذلك الشيء ، ثمّ نشأت بقدرته تعالى في عالم الأرواح العقليّة حينما صارت منفوخاً فيها روح اللَّه وسجود الملائكة ، ثمّ سكنت بأمر اللَّه تعالى في الجنّة ، وتناولت من ثمارها وأشجارها ، ثمّ هبطت بعد ذلك إلى القالب وبالقالب إلى هذا العالم .
و« ورقاء » حال من الضمير في « هبطت » وهو مبالغة في التشبيه حذفت أداته ، أي حال كونها كالورقاء في القوّة وخفّة الجناح في النزول ، والورقاء : الحمامة الرماديّة والخضراء ، واختار التشبيه بالحمامة دون غيرها من الطيور مع أشرفيّتها كالباشق۳والغرنوق۴ والبازي ؛ إمّا لما ورد في الشرع من وصف الحمام باللطايف المطلوبة في النفس كالاُنس۵ ، أو لما ورد أنّ أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر۶ ، أو لأنّ النفوس لتجرّدها تحبّ ذكاء الرائحة ؛ ولا أذكى من رائحة الحمام ؛ لأنّها لم تتنخّم ؛۷ لاختراقها صافي الهواء ، فاغرة أفواهها فتلطّف ، وشأن الهواء التلطيف .
« ذات تعزّز وتمنّع » إمّا أن يكون المعنى : ذات تعزّز وتمنّع من دخول هذا الجسد لدخولها إليه مكرهة ، وإمّا أن يكون المعنى : ذات تعزّز وتمنّع وحصانة من الشوائب المغيّرة لها ؛ لاتخاذها هذا البدن محلّاً كالقفص للطائر ، والبيت للإنسان ، تبلغ به مآربها الموجبة لارتفاعها مآلاً .
والكاف في قوله : « إليك » إن اُريد نفسك فيراد من الورقاء : الروح ، ومن المحلّ الأرفع : العالم القدسي العقلي ، وإن اُريد بها : بدنك فالورقاء هي النفس ، والمحلّ الأرفع : هو عالم الجنّة ، والثاني أنسب بما بعده .
وقوله : « محجوبة عن كلّ مقلة عارف » البيت ، حاصله : أنّ النفس لتجرّدها محجوبة متبرقعة عن الأبصار ، ولنورانيّتها وسفور وجهها مكشوفة للبصائر ، والسفر : كشف الوجه ، والتبرقع : ستره ، وتقديم لفظ الكلّ عليها لرعاية الوزن .
« وصلت على كره إليك » إمّا منها فقط أو من الجسم فقط أو منهما معاً ، لا سبيل إلى الثاني ؛ إذ لا شعور له ، ولا إلى الثالث لذلك أيضاً ، فتعيّن الأوّل ، لكراهتها مفارقة الأنوار الباهرة ، والتعلّق بظلمات كثيفة ، وهي مع كراهتها التعلّق بك أيّها البدن - لما ذكر - ربّما كرهت فراقك إذا عرض لك أسباب الاضمحلال وانحلال الأجزاء ، فاشمأزّت من التألّم ، وكرهت تلك العوارض ، ومالت إلى جلب الصحّة ، وهي « ذات تفجّع » على فراقك إذا وعدت بالمفارقة ، فكيف إذا وقعت بالفعل ؟ وهذا من الغرائب ، تدخل هذا البدن مكرهة وتخرج منه مكرهة وتتأسّف على فراقه .
« أنفت » أي أعرضت عن الدخول إلى هذا الهيكل ؛ احتقاراً له لعدم مناسبة بينها وبينه ؛ إذ كانت من العالم العلوي النوراني ، وهو من العالم السفلي الظلماني « فما ألفت » به ، وفي بعض النسخ : « وما سكنت » ، أي لم ترض للسكون فيه .
« فلمّا واصلت » أي واصلت الهيكل واتّصلت به ألفت مع ما كان منها من الإعراض والأنفة ، وفي بعض النسخ : « كرهت مجاورة الخراب البلقع » وهو كناية عن البدن ، والبلقع مبالغة في خرابه ؛ لأنّه المقفر الخالي من العمارة .
ومن الغريب أنّ الشيخ الرئيس أسند الأفعال إليها حيث قال : أنفست وما أنست وواصلت وألفت ، وهذا كلّه يقتضي اختيارها في تلك الاُمور ، والحال أنّها مجبورة في كلّ ذلك مكرهة ، وإلّا لاستقلّت بالتدبير ، ولزم حينئذٍ أن لا اتّصال لمضادّته الاُنفة ، وأن لا مفارقة لمعاكسته الاُلفة .
وسمّى الشيخ اتّصال النفس بالبدن : مجاورة ، وفيه ما فيه ، فقد قال قوم به ، وردّ بأنّه يلزم انفكاكها كلّ وقت اختياراً والواقع خلافه ، وقيل باتّصالها كالنار في الشمعة ، وردّ بأنّه يلزم عليه أنّه لو نفخ إنسان في وجه آخر افترقا كما يكون عند إرادتنا إطفاء الشمعة .
وقال فيثاغورس وتلميذه سقراط بأنّ كيفيّة التعلّق واقع كالسريان الصادر من نحو الدهن في الزيتون والسمسم للتدبير ولو بالأشعّة ، وأظنّها حين ألِفَتْكَ أيّها البدن ، وكرهت فراقك نسيت عهوداً بالحمى ومنازلاً بفراقها ، لم تقنع بذلك حتّى ألفت هذا البدن ولم ترض بفراقه .
وحاصل الكلام : أنّ العناية الأزليّة قد جرت في الأزل وتعلّقت بهبوط النفس الإنسانيّة من العالم الأرفع النوري إلى الهيكل المزاجي ، فنزلت النفس من جوّ الفضاء العقلي والعالم الأعلى السماوي إلى وكر البدن الظلماني على سبيل الكراهة والصعوبة ؛ لأنّ مفارقة الوطن الأصلي والمسكن الحقيقي - سيّما عالم القدس النوري - يكون في غاية الصعوبة ، فارقت لكن بحكم اللَّه الذي لا رادّ لحكمه فارق العالم الأعلى كرهاً ، وتعلّقت بالوكر الأدنى جبراً وقهراً ، وانفصلت من الطهارات والتقدّسات النوريّة ، وتعلّقت بالأدناس والألواث البدنيّة ، والقاذورات الطبيعيّة ، وهبطت في قعر السعير الظلماني ، ومهوى الحضيض الجسماني والجحيم النفساني ، مقيّدة بالسلاسل والأغلال في سجون التعلّقات ، أسيرة بأيدي الشياطين والأوهام والخيالات ، محترقة بنيران الشهوات ، ملسوعة بسموم العقارب والحيّات .
فلمّا قيّدت كالحمامة بشبكة البدن والقوى أَنِسَتْها بعدما كرهتها ، وألفت بها بعدما أنفت منها ، ونسيت عالمها بعدما ذكرت ، كما قال تعالى : « فَنَسِىَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا »۸ ، وقوله تعالى : « نَسُواْ الذِّكْرَ »۹ ، وقوله تعالى : « نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ »۱۰ ، ورضيت بهذه الحياة الدنيا ، واطمأنّت بها ، ويئست من الآخرة ، وأخلدت إلى الأرض واتّبعت هواها ، كما قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَ رَضُواْ بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ اطْمَأَنُّواْ بِهَا وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَتِنَا غَفِلُونَ »۱۱ ، وقال تعالى : « قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الْأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَبِ الْقُبُورِ »۱۲ .
فلمّا جهل أبناء الدنيا أحوال الآخرة ومثوباتها اشتغلوا عن ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذّاتها وشهواتها ، وتمنّوا الخلود فيها ؛ لأنّها محسوسة لهم يشاهدونها بحواسّهم ، وتلك الدار ونعيمها ولذّاتها ومشتهياتها غايبة عنهم وعن إدراك حواسّهم ، فتركوا البحث عنها والرغبة فيها والطلب لها والسعي إلى ذكر اللَّه وذكرالآخرة ، فلا جرم إذاً احتاجت عند ذلك نفوسهم إلى من يذكّرها العهد القديم ، ويجدّد عليها الذكر الحكيم ، ويشوّقها إلى ما عند اللَّه ويسوقها من دار الدنيا إلى الدار الآخرة ، فالرحمة الإلهيّة أجادت بإرسال الرسل إليها وإنزال الكتب عليها ، فمنهم من آمن بهم لبقاء نور الفطرة في قلبه ، ومنهم من صدّ عنهم لانطماس نور فطرته وتراكم ظلمات المعاصي في قلبه .
« حتّى إذا اتّصلت بهاء هبوطها » الأتمّ مكاناً ، ومعنى هبوطها : الاتّصال الحقيقي لا غيره ، من أوّل غاية مبدء (ميم) مقرّها الذي هو « مركزها بذات الأجرع » وهو محلّ بوادي العقيق ، تهبّ فيه رياح ليّنة ، قد مزجت بما رُوّح به البيت الشريف ، وكانت العرب تتّخذه مَنزهاً ومَربعاً ، ولها فيه المآرب العظيمة ، وصار كلّ من له تعشّق في شيء من ناطق أو صامت نامياً أو جامداً كنّى عنه بذلك ، ولعلّ الشيخ كنّى به هنا عن البدن لشرفه ودقّة صنايع تركيبه ، واشتماله على العالم الكبير الذي كان موطن النفس ، وقد سمّاه سقراط : الهيكل القدسي ، وهرمس الأوّل : بيت اللَّه .
وقد قيل في السرّ في تعبير الشيخ الرئيس بالهاء والميم وجوه :
الأوّل : أنّه عبّر بهما جلباً للقلوب ، وطلباً للإصغاء الذي نتيجته تحصيل المطلوب .
الثاني : أنّهما إشارة إلى الهمّ الذي حصل لها ، والهمّة المنتجة لتحصيلها ، ممّا حصلت فيه مابين الهبوط والوصول ، والمركز والمحيط ، وذلك لا يكون إلّا بأعلى الهمم ، فيكونان إشارة إلى الأمر بالهمّة أو إلى « مه » أي : اسكت ناصّتاً لما يتلى عليك ، أو اكفف عن هذه ، فإنّه لا أدب أشدّ من السكوت عن حِكم اللَّه الخفيّة التي لا تدركها العقول القاصرة والأفهام الحاسرة .
« علقت بها » علاقة ثبتٍ واتّصال .
« ثاء الثقيل » وهو المركز الأخسّ ، يعني التراب .
« فأصبحت » من الاستصباح ، أي الوضوح ، ويحتمل على بُعدٍ أن يكون من الصبح .
« بين المعالم » التي هي رسوم الاُصول وقواعد التركيب ، كالعظام والغضاريف ، تشبيهاً لها بعالم المنازل من العمارات كالعُمدات .
« والطلول » وهي بقايا المنازل ، والمراد بها هنا من أجزاء البدن ما كان صلباً كالفقرات وعظام الفخذ .
« الخضّع » البالية المضمحلّة ؛ إذ لا معنى للخضوع الأصلي هنا .
« تبكي » على فراقه وتندب حاله .
« إذا ذكرت عهوداً بالحمى » يعني البدن .
« بمدامع تهمي » أي تنهمل وتنزل بقوّة وانحدار .
« ولما تقلع » لم تدع البكاء ، بل هي مقيمة عليه .
« وتظلّ » أي تدوم على إقامة المأتم .
« ساجعة » منشدة للكلمات المهيّجة للاشتياق المذكّرة للفراق .
« على الدمن » وهي بقايا الديار .
« التي دُرست بتكرار الرياح الأربع » الصبا : وهي من مطلع الشمس ونقطة الاعتدال إلى الجدي ، حارّة يابسة ، والشمال : من الجدي إلى نقطة الغرب ، باردة يابسة ، والجنوب : من نقطة الاعتدال المشرقيّة إلى سهيل ، حارّة رطبة ، ومنها إلى النقطة المغربيّة الدبور .
« إذ عاقها » عن مطالبها التي هي المراقي إلى سعادة الأبد والنعيم السرمد .
« الشَرَك » الذي مدّت حبائله واختفت غوائله ، واستعار للبدن لفظ الشَرَك .
« الكثيف » لكونه مانعاً من الوصول .
« وصدّها نقص » فاحش عظيم من الانهماك في اللذّات والإقبال على الشهوات .
« عن الأوج الفسيح المربع » الذي صحّ هواؤه وعذب ماؤه وعلا بناؤه ، وحاله حال الربيع من الاعتدال ، وأراد به العالم العلوي ، وقد اُورد هنا إشكالات :
الأوّل : أنّ النفس إن كان سبب إيداعها في هذا الهيكل اكتساب الكمال ففيه : أنّه قد ثبت أنّها من الفيض الأعظم حيث مجمع الكمالات ، والسفليّات ما فيها ذرّة من الكمال إلّا بمعاونة العلويّات ، فكيف يقال ذلك ؟ وعلى أيّ شيء أسفها وهي أشدّ تحصيلاً لمطالبها حين كانت مجرّدة عن البدن ، وعند اجتماعها مع البدن يكون الاكتساب مع الاشتغال بتدبيره أشقّ ؟
لا يقال : إنّ الاكتساب بغير آلة لا يتمّ ، وهذا الهيكل آلة فلابدّ منه .
لأنّا نقول : يلزم على هذا خلوّ الروحانيّات عن الكمال ، وهو ممنوع .
الثاني : لا ريب في استحالة بقاء جوهر بلا عرض آناً مّا ، واجتماع عرضين كذلك ، فحين تحقّق مفارقة واحد ، فإن خرج قبل دخول الآتي لزم خلوّ جوهر عن عرض ، أو دخل قبل الخروج اجتمعا ، والكلّ محال .
الثالث : النفس إن قيل بتعدّدها على بدن واحد تدريجاً من أعلى إلى دون أو عكسه ، فكيف ينتهي بها الحال ؟ وهذا هو النسخ الذي قام الدليل على بطلانه ، وإن انتقلت متصاعدة فهذا هو المسخ ، وغايته أن ينتهي الفيل إلى بعوضة كما عليه الباطنيّة ، وإن تعدّدت بلا نهاية ، أو بها وتكون الإناطة بربّ الطالع وصاحب البيت فهذا هو الرسخ ؛ لثبات كلٍّ على وجهٍ لا قهر فيه ، ويلزم حينئذٍ أن ترى إنساناً واحداً آدميّاً وحماراً أو كلباً وطائراً ووحشاً مزاجاً وصورةً ، وهو واضح البطلان ، وإن كانت النفس لا تتعدّد والبدن بالعكس ولها تدبير الكثرة على أحسن حالة ، لا يختلّ فيها ، فهذا هو الفسخ ، ولوازمه اختلال مقتضيات أحكام الطوالع ، وقد فرضوها دائمة النظام ، هذا خلف .
« حتّى إذا قرب المسيح من الحمى » يعني أنّها مستمرّة تبكي على ما فاتها من اكتساب الفضائل ، وتظلّ ساجعة بالأشعار والأصوات المشجية للشرك الذي عاقها ، والنقص الذي صدّها ، إلى أن قرب منها المسيح ، أي السيح أو السير إلى لاحمى ، وهو الموطن الأصلي والمحلّ الحقيقي الذي لا يأسف ساكنوه على شيء ، ولا يفوتهم شيء ، ولا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون .
« ودنى الرحيل » إلى ذلك .
« الفضاء الأوسع » بسعة الأنوار وصفاء الأرواح ، وعدم التنافس والتحاسد والتقاطع .
« وغدت » أي أخذت في قطع العلائق والأسباب غدوة كما هو شأن من يريد إنجاز الاُمور ؛ ولأنّ التبكير شأن من يبرأ عن الكسل ؛ لأنّ النفوس حين تهب من النوم يقارنها النشاط ، لانحلال البخار الذي اجتمع دورها۱۳عند إرادة الراحة ، ولذا ورد في الشريعة : « بورك لاُمّتي في بُكورها »۱۴ .
« مفارقة لكلّ مخلف عنها » قلّ أو كثر ؛ لتوجّهها إلى نور الأنوار الفالق حُجُب الكثافة عن المجرّدات الفاصلة .
« حليف » أي حال كونه محالفاً ومعاهداً .
« الترب » أي التراب الساقط من طبقات الأرض كلّها لعدم الانتفاع به .
« غير مشيّع » غير مودّع ؛ إذ لا يودّع ولا يشيّع إلّا ما كان ذا خطر وعظمة .
« سجعت » بالأغاني على المغاني وما توقّت من محاسن المعاني ، إمّا سروراً إن كانت من المقرّبين وأصحاب اليمين ، أو حزناً إن كانت من المكذِّبين الضالّين .
« وقد كشف » لها « الغطاء فأبصرت » هناك من القرب والسخط والسعادة والشقاء « ما ليس يدرك بالعيون الهجّع » ولا خطر على قلب بشر .
« وغدت تغرّد » أي تسجّع في الغدوات « من فوق » أراد به مطلق العلوّ للمدح .
« ذروة » الشيء : أمنعه وأعلاه ، من حيث ذلك ، لا من حيث مجرّد المكانيّة .
« شاهق » أي مرتفع ، وزاد في وصف العلوّ لتسمعَ النائي والبعيد ما تقوله .
« والعلم » النافع في الدين والدنيا « يرفع » منزلة « كلّ من لم يرفع » قدره بالمال ولا بالجاه ولا بالقوّة .
وحاصل مراد الشيخ : أنّ هذه النفس لمّا تألّفت مع هذا البدن واكتسبت بواسطة ما صارت به فاضلة غرّدت على فراقه معولة بالحزن والأسف ، فوق شاهق يسمعها منه من لم يسمع لو كانت في منخفض من الأماكن ، من حيث تمكين الهوى من رفع الأصوات والكلمات ، واحتجّ على قوله بالدليل كأنّه قيل له : بما ارتفعت إلى الشاهق المذكور ؟ فقال : بالعلم الذي يرفع كلّ من لم يرفع .
ثمّ التفت الشيخ سائلاً عن حال الهبوط والتركيب والسريان والخروج ونحوها قائلاً : « فلأيّ شيء » من الأشياء وغرض من الأغراض يعود نفعه إلى الموجودات نفسها « هبطت » هذه النفس « من شامخ » متمحّض للخير والطهارة والتقديس والنزاهة « عال » من حيث المكان « إلى قعر » أي أسفل الأسفل من « الحضيض الأوضع » مبالغة في التسافل ؟ وما الحكمة في ذلك ؟
فإن قيل : عوقبت بذلك ، قيل : إنّها لم تعص بعد حتّى تعاقب ، ولا هي عرية من اللطائف التي اجتمعت فيها حتّى يقال : طهرت الأمكنة الرفيعة منها ، ولا تعشّق بينها وبين البدن حتّى يقال : حملها على ذلك الاشتياق ، ولا بينهما دقيقة مغناطيسيّة ، إلى غير ذلك ممّا يمكن تمحّله .
وغاية ما وقع للعارفين من الحكماء في الجواب عن هذا الإعضال أن قالوا : إنّها هبطت فتعلّقت بهذا الهيكل ؛ لتكمل بواسطته إن كانت من أهل الجدّ والاجتهاد ، فإذا حقّ التفريق كانت بما اكتسبت أهلاً لمخالطة الأرواح الفاضلة ، والعود إلى مألفها من حيث اُخذت ممتزجة بالرفيق الأعلى .
وهذا الجواب في غاية السخافة عند التحقيق ؛ إذ يلزم عليه أن يجب لكلّ نفس تعلّقت ببدن أن لا تفارقه حتّى تتكمّل ، وهو واضح الفساد .
وثانياً۱۵ : أنّها إذا كانت من الملأ الأعلى ، والمقام الأرفع الأسنى ، فكيف تكون ناقصة وقد فرضتموه كمالاً محضاً وخيراً بحتاً ؟ وما نحن فيه إمّا على الضدّ أو ممتزجاً ، وكلاهما لا يعطي تكميلاً .
وثالثاً : أنّ اللطائف إن كانت لا تتكمّل إلّا إذا تعلّقت بالكثايف ، فيجب أن تتعلّق سائر الروحانيّات بالأجسام الكثيفة ، وذاك محال .
ورابعاً : أنّ النفس إن كانت متقدّمة في الوجود على هيكلها فأين تكون حتّى يوجد أو العكس ؟ وعلى أيّ جهة ينتصب حتّى تأتيه ؟ وكيف يتكمّل في الأرحام ثمّ تتعلّق به ؟ وعلى أيّ وجه تقع المداخلة ؟ وإن كان وجودهما في زمن واحد فكيف يختلفان ؟ إذ المقتضي للنقص لا يقتضي الكمال والعكس .
وبالجملة ، فالأمر مشكل قد حارت فيه عقول الحكماء ، والجواب الحقيقي هو ما صدر من العالم بحقائق الأشياء كما هي حسبما تقدّم في الرواية .
ثمّ قال الشيخ : « إن كان أهبطها الإله » الحكيم القدير « لحكمة » خفيّة « طويت عن اللبيب » أي ذي اللبّ والعقل ، « الأروع » أي صاحب الروع والعقل ، أخذاً من قوله صلى اللَّه عليه وآله : « ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها »۱۶ .
« فهبوطها إن كان » لمصلحة تعود عليها وإن خفيت علينا لا محالة حينئذٍ يكون « ضربة لازب » ، أي أمراً لازماً حتماً مقتضياً ، أوجبه الحكيم ؛ « لتكون » بهذا الهبوط « سامعة » بحقائق الأصوات والعلوم والمعارف « لما لم تسمع » قبل ذلك ، ومبصرة لما لم تبصره ، ومكتسبة من العلوم والمعارف والحقائق التي تحصل لها باقتحام هذا الهيكل ما لم يكن لها قبل ذلك .
« وتعود » أيضاً « عالمة » كما غدت سامعة « بكلّ فضيلة » جليلة أو دقيقة « في العالَمَين » : عالم الغيب والشهادة ، أو عالم البساطة والتركيب ، أو عالم العقول والنفوس ، أو السماوات والأرضين ، أو الأفلاك والعناصر ، أو الكون والفساد .
« فخرقها » حينئذٍ الذي انفتح عليها بسبب مفارقة البدن وفوات تلك المطالب العظيمة والمنافع الجسيمة « لم يرقع » ؛ لعلمها بعدم إمكان عودها إليه مرّة اُخرى حتّى تكتسب ما فاتها من العلوم والمنافع ، ولذلك اشتدّ تأسّفها على مفارقته وكثر حنينها وبكاؤها وتغريدها عليه .
« وهي التي قطع الزمان » باضمحلال الأخلاط وقهر بعضها بعضاً « طريقها » التي كانت ناشئة عليه ، راجعة في التحصيل والتعويل عليه ، « حتّى لقد غربت بغير المطلع » ، فإنّ طلوعها من الأعالي وغروبها من الأسافل .
« فكأنّه » من حيث الأركان والأغراض والآلات « برق » أي ضوء قليل « تألّق » أي التمع « بالحمى ثمّ انطوى » عنه متوارياً ، « فكأنّها لم تطلع » لسرعة انقضائها .
« أنعم » أيّها السامع أو المخاطب « بردّ جواب ما أنا فاحص عنه فنار العلم » وإن خبت تبدو « ذات تشعشع » وضياء ، ولقد ظهر منه تحيّره في هذا الأمر والاحتياج إلى الجواب ، والأمر كذلك ، والجواب الحقيقي ما ذكره الإمام عليه السلام حسبما قدّمناه ممّا لم تحلم به أفكار الحكماء .
1.في شرح المؤلّف : « بكلّ فضيلة » .
2.القصيدة المزدوجة في المنطق ، ص ۲۳ - ۲۴ .
3.الباشق : نوع من جنس البازي من فصيلة العقاب النسريّة ، يشبه الصقر ، ويتميّز بجسم طويل ومنقار قصير بادي النقوش ، المعجم الوسيط ، ج ۱ ، ص ۵۸ (بشق) .
4.الغرنوق : طائر أبيض ، وقيل : هو طائر أسود من طيور الماء ، طويل العنق . لسان العرب ، ج ۱۰ ، ص ۲۸۷ ( غرنق ) .
5.انظر : وسائل الشيعة ، ج ۱۱ ، ص ۵۲۶ ، باب استحباب اتّخاذ الورشان وسائر الدواجن في البيت .
6.راجع : مستدرك الوسائل ، ج ۷ ، ص ۵۱۸ . وفيه : « أنّ من صام في السابع وعشرين من رجب ومات في يومه أو في ليلته مات شهيداً ويجعل اللَّه روحه في حواصل طير أخضر » .
7.لم تتنخّم : لم تتقيّأ .
8.طه ( ۲۰ ) : ۱۱۵ .
9.الفرقان ( ۲۵ ) : ۱۸ .
10.التوبة ( ۹ ) : ۶۷ .
11.يونس ( ۱۰ ) : ۷ .
12.الممتحنة ( ۶۰ ) : ۱۳ .
13.أي حولها . انظر : لسان العرب ، ج ۴ ، ص ۲۹۵ ( دور ) .
14.الخصال ، ج ۲ ، ص ۳۸۲ - ۳۸۳ ، ح ۵۹ ؛ منية المريد ، ص ۲۶۶ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱۱ ، ص ۳۵۷ ، ح ۱۵۰۰۵ .
15.لم يتقدّم عنه الأوّل بصورة : أوّلاً ، وإنّما كان الأوّل عند قوله : « إذ يلزم عليه أن يجب . . . » .
16.الكافي ، ج ۲ ، ص ۷۴ ، باب الطاعة والتقوى ، ح ۲ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۶ ، ص ۳۲۱ ، ح ۱ .