تذييل [الكلام في أوّل المخلوقات]
قد اختلف الناس في أوّل المخلوقات ، والأخبار أيضاً مختلفة ، فالحكماء على أنّ أوّل المخلوقات : العقل الأوّل ، ثمّ خلق العقلُ الأوّل العقلَ الثاني والفلك الأوّل ، وهكذا إلى أن انتهى إلى العقل العاشر ، فهو خلق الفلك التاسع ، وهيولى العناصر .
وقال جماعة منهم : إنّ تلك العقول وسائط لإيجاده ولا مؤثّر في الوجود إلّا اللَّه ، ولم يتمّ لهم دليل على ذلك ، حتّى قال المحقّق الطوسيّ في التجريد : أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ، وأدلّة وجوده مدخولة۱ ، واستدلّ الحكماء على وجود العقل بأنّ الصادر الأوّل عن الباري تعالى يجب أن يكون واحداً مستقلّاً بالتأثير ، والوجود الممكن منحصر في الجواهر الخمسة والعرض ، فالجسم منها ليس بواحد ، لتركّبه من الهيولى والصورة ، والهيولى ليست بمؤثّرة ؛ لأنّها قابلة لا فاعلة ، والصورة غير مستقلّة بالتأثير ، لتوقّف تشخّصها - الموقوف عليه تأثيرها - على الهيولى ، والنفس أيضاً كذلك ، لتوقّف تأثيرها على الآلات الجسمانيّة ، والعرض غير مستقلّ بالوجود .
واُجيب بأنّ مبنى هذا الدليل على أنّ الواحد لا يصدر منه أمران ، ونحن نمنع أوّلاً وحدة المؤثّر من جميع الجهات ؛ إذ هو مختار بتعدّد إرادته وتعلّقاتها ، فتكون هناك حيثيّات متعدّدة ، ولو سلّم فلا نسلّم امتناع صدور أكثر من واحد عنه ، وقد حكي أنّه طلب بهمنيار من ابن سينا دليلاً على امتناع ذلك ، فكتب إليه : إنّه لو كان الواحد الحقيقي مصدراً لأمرين للزم اجتماع النقيضين ؛ لأنّه لو كان مصدراً لزيد ولعمرو كان مصدراً لزيد ولما هو ليس زيداً .
واُجيب : أنّ نقيض صدور زيد : لا صدور زيد ، لا : صدور لا زيد .
قال الإمام الرازي عند وقوفه على استدلال الرئيس :
العجب ممّن أفنى عمره في المنطق ليعصمه عن الغلط ، كيف يهمله في هذا المطلب الأعلى في غلطٍ تضحك منه الثكلى والصبيان۲ . انتهى .
على أنّه لو لم يصدر منه الّا واحد لم يصدر عن المعلول الأوّل إلّا الثاني ، وعنه إلّا الثالث ، وعنه إلّا الرابع ، وهكذا فتكون الممكنات سلسلة واحدة ، وكلّ معلول لما فوقه علّة لما تحته ، وذلك ممّا تبطله البديهة .
واستدلّ بعضهم على امتناع العقل بأنّه لو كان موجوداً لشارك الواجب في التجرّد وأدّى إلى تركيب الواجب من المشترك والمايز ، فيبطل لبطلان المترتّب عليه .
واُجيب بأنّ المشترك عارض وليس من المعاني الوجوديّة أيضاً ؛ إذ هو سلب صرف لا يلزم التركيب .
وبالجملة ، فالدليل على وجوده وامتناعه غير قائم . نعم ، روي من طرق العامّة : أوّل ما خلق اللَّه العقل ، وروى الكليني وغيره عن الصادق قال : « إنّ اللَّه خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين » ، وهو يدلّ على تقدّمه على خلق الروحانيّين ، والأولى أن يراد به نفس الرسول صلى اللَّه عليه وآله ونوره كما ورد في الأخبار الكثيرة ، وذهب جماعة إلى أنّ أوّل المخلوقات الماء ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار ، وقيل : أوّلها الهواء كما ذكره القمّي في تفسيره ، وقيل : أوّلها النار ، وقيل : أوّلها القلم ، ويمكن حمل البعض على الأوّليّة الإضافيّة۳ .