415
مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار

[شبهات القائلين بِقِدم العالم وردّها]

ثمّ إنّ للفلاسفة ومن حذا حذوهم من القائلين بقدم العالم شبهات :
أوّلها - وهي أقواها - : قالوا : إذا لاحظنا الواجب تعالى في طرف وجميع ما عداه - بحيث لا يشذّ عنها شي‏ء - في طرف آخر فحينئذٍ إمّا أن يكون الواجب تعالى علّة تامّة لشي‏ءٍ مّا ، أو لا .
وبعبارةٍ اُخرى : جميع ما لابدّ منه في وجود شي‏ءٍ مّا ، - سواءاً كان ذلك الشي‏ء الإرادة الزائدة أو غيرها - إمّا ذاته تعالى أو لا ، وعلى الأوّل يكون ذلك الشي‏ء معه دائماً في الأزل ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وعلى الثاني يستحيل وجود شي‏ء مّا أبداً ؛ لاستحالة التغيّر في حقّه تعالى .
وبعبارةٍ اُخرى أن يقال : ذات الواجب تعالى إمّا أن تستجمع جميع شرائط التأثير في الأزل أو لا ، وعلى الأوّل يلزم قدم الأثر بالضرورة ؛ لامتناع التخلّف عن الموجب التام ، وعلى الثاني توقّف وجود الأثر - وهو العالم - على شرط حادث ، وننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل .
وللتفصّي عن هذه الشبهة - التي هي أقوى شبهاتهم - طرق ، ذهب إلى كلّ منها جماعة :
الأوّل : ما اشتهر بين الكلاميّين ، وحاصله : أنّا نختار أنّه ليس في الأزل مستجمعاً لشرائط التأثير ، وقولهم : توقّف وجود الأثر على شرطٍ حادث ، قلنا : هو تمام قطعة من الزمان يتوقّف عليها وجود العالم ، ويرتبط به الحادث بالقديم على نحو ما التزمه الفلاسفة في الحركة ، فإنّهم قالوا بقدم العالم ، لزعمهم لزوم توسّط أمر ذي جهتَي استمرار وتجدّد بين الحادث اليومي والقديم ؛ لئلّا يلزم التخلّف عن العلّة التامّة .
ونحن نقول : إنّه الزمان ولا يلزم القول بالتسلسل ؛ لكونه أمراً اعتباريّاً انتزاعيّاً ، وأدلّة وجوده مدخولة ، ولا نقول بانتزاعه من موجود ممكن حتّى يلزم القدم أيضاً ، بل هو منتزع من بقائه تعالى ، فكما أنّهم يصحّحون ربط الحادث بالقديم بالحركة والزمان كذلك نصحّحه أيضاً بالزمان ، وكون الزمان مقدار حركة الفلك ممنوع كما تقدّم ، بل نعلم بديهة أنّه إذا لم يتحرّك الفلك يتوهّم هذا الامتداد المسمّى بالزمان ، والقول بأنّه لعلّه من بديهة الوهم لا يصغى إليه .
ثمّ إنّ الزمان وإن كان وهميّاً فمعلوم أنّه ليس وهميّاً اختراعيّاً ، بل وهميّ نفس أمري ، ومثل هذا الوهم يصحّ أن يكون منشأ للاُمور الموجودة في الخارج ، لا بأن يكون فاعلاً لها بل دخيلاً فيها .
على أنّه لو كان وهميّاً محضاً لم يترتّب عليه حكم ، ولا يتحقّق تخلّف المعلول عن العلّة ، إذ لم يتخلّل زمان بين العلّة وأوّل المعلولات أصلاً حتّى يسئل عن الترجيح بين أجزائه ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، والابتداء المتوهّم محض اختراع الوهم .
واعترض بأنّ الزمان لو كان منتزعاً منه سبحانه لكان صفة له كما شأن سائر ما ينتزع منه تعالى كالعلم والإرادة والقدرة والخلق وغير ذلك من المعاني المصدريّة ، والثاني باطل ؛ لأنّه تعالى لا يتّصف بالزمان ؛ لأنّه ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، كما يدلّ عليه العقل والنقل ، كقول الصادق عليه السلام : « إنّ اللَّه لا يوصف بزمان ولا مكان ، بل هو خالقهما » .
وقول الكاظم عليه السلام : « إنّ اللَّه لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان » ، وقوله : « إنّ اللَّه لا يوصف بمكان ولا يجري عليه الزمان » .
واُجيب : أوّلاً بأنّا لا نسلّم أنّ كلّ ما ينتزع من شي‏ء يجب أن يكون صفة له ؛ لأنّ مناط كون الشي‏ء صفة لشي‏ء هو وجود العلاقة الناشئة۱ بينهما ، وكون انتزاع شي‏ء من شي‏ء مطابقاً مستلزماً لوجود تلك العلاقة غير بيّن ولا مبيّن ، ومن تصدّى له فعليه البيان .
وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا ذلك نقول : ما ورد من النصوص من أنّه ليس بزمانيّ ولا مكانيّ معناه : أنّه كما أنّه لا يحيط به مكان حتّى يكون ظرفاً له مشتملاً عليه ، كذلك لا يحيط به زمان حتّى يتقدّم عليه جزء من ذلك الزمان أو يتأخّر عنه جزء آخر .
وأمّا مقارنة الحقّ القديم للزمان وتحقّقه معه في نفس الأمر من الأزل إلى الأبد ، فلا شكّ في صحّته ووقوعه ، وما ورد في النصوص من توصيفه تعالى بالباقي والدائم والسرمدي والأزلي والأبدي ممّا يشهد بصدقه ، ويؤذن بأنّ ما دلّ على نفي الزمان عنه المراد به نفي إحاطة الزمان به تعالى .
الطريق الثاني : مبنيّ على عدم كونه تعالى زمانيّاً - كما هو التحقيق - لما تقدّم من النصوص ، ولأنّ الزمان حقيقة تجدّد شي‏ء وتقضّي شي‏ء وتصرّمه ، وتجدّد شي‏ء وانقضاء شي‏ء آخر محال على اللَّه تعالى ، كما يدلّ عليه العقل والنقل ، وما ورد على خلاف ذلك ظاهراً - كقوله تعالى : « كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ »۲ ، « خَلَقَ السَّمَوَ تِ وَالأَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ »۳
ونحو ذلك - فمحمول على ضيق فهم العباد ؛ لأنّ أكثر الخلق لا يفهمون التجرّد من الزمان ، وتفاهمهم عامّة بالزمان ، فإنّ تصوّر التجرّد عن الزمان صعب يحتاج إلى تلطيف قريحة ، كما قال أميرالمؤمنين في خطبة الوسيلة : « إن قيل : كان فعلى تأويل أزليّة الوجود ، وإن قيل : لم يزل فعلى تأويل نفي العدم » .
وحينئذٍ إذا تحقّق ذلك [مع ما] تقدّم من تحقيق الدهر والسرمد فنقول : على تقدير الحدوث لا نسلّم لزوم التخلّف عن العلّة التامّة ، وإنّما يتصوّر التخلّف لو كانت العلّة زمانيّة ووجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول معها في ذلك الزمان ، وهنا يمكن أن نقول : أنّ كلّاً من العلّة والمعلول ليسا بزمانيين ؛ أمّا العلّة فلما عرفت ، وأمّا المعلول فهو الصادر الأوّل ، وهو العقل على رأي الحكماء ، أو النور المحمّدي أو غيرهما ، وهناك لم يوجد زمان وزمانيّ أصلاً ، ولا شي‏ء إلّا الواحد القهّار .
وبالجملة ، فإذا كان كلّ من المعلول والعلّة زمانيّين وجب أن يجمعهما آن أو زمان ، وإلّا فلا ، ونظيره التخلّف المكاني ، فإنّه لو كانا مكانيّين يتصوّر الاجتماع والافتراق والمماسّة واللّامماسّة ، وأمّا إذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مكانيّين لم يتصوّر أمثال هذه الاُمور ، وكذا إنّما يتصوّر الترجيح بلا مرجّح إذا تحقّق زمان وقع أمر في جزء منه دون جزء ، وصدر المعلول من العلّة مرّة ولم يصدر مرّة اُخرى ، وقبل خلق العالم الزمان والزمانيّات معدومة مطلقاً ، ونفي صرف لا يجري فيه أمثال هذه الأوهام الكاذبة المخترعة الناشئة من الاُلفة بالزمان والمكان .
الطريق الثالث : النقض بالحوادث اليوميّة ، فإنّا نقول : لو كان الواجب تعالى في طرف وجميع ما عداه - بحيث لا يشذّ شي‏ء منها - في طرف آخر ، فإمّا أن يكون ذاته تعالى وحدها علّة تامّة لشي‏ءٍ مّا ، أو لا يكون ، وعلى الأوّل يلزم قدم شي‏ءٍ مّا ، وعلى الثاني يلزم أن لا يوجد شي‏ء أبداً ، ثمّ نأخذ الصادر الأوّل منه تعالى ، ونقول : الواجب مع هذا الصادر إمّا أن يكونا علّة تامّة لشي‏ءٍ مّا ممّا عداهما أو لا ، ويلزم قدم الصادر الثاني ، وهكذا في الصادر الثالث والرابع حتّى ينتهي إلى الحادث اليومي ، ولا ينفعهم توسّط الزمان والحركة والاستعدادات .
قال المحقّق الدواني في بحث إعادة المعدوم :
إذا اقتضى ذات الشي‏ء في الأزل وجوده فيما لا يزال يلزم كونه موجوداً في‏الأزل فيما لا يزال ، ويلزم اجتماع أجزاء الزمان . انتهى .
قيل : وتفصيل ذلك أنّا إذا أخذنا من العلّة الاُولى ، ثمّ لاحظنا الأشياء على سبيل التنزّل ، فلابدّ من أن تنتهي نوبة الإيجاد إلى الزمان والحركة ؛ لأنّهما من جملة الممكنات ، فلابدّ من أن يكونا في سلسلة المعلولات ، ولا شكّ في أنّ كلّ مرتبة منها علّة تامّه للاحقها وقديمة عندهم ، فعلّة الزمان والحركة إمّا أن تكون تامّة مستقلّة بلا مشاركة حادث أصلاً ، فيلزم انقطاعهما واجتماع أجزائهما ، وهو ظاهر ، وأمّا إذا لم تكن بل تكون علّة لجزءٍ مّا منهما ، ثمّ يكون ذلك الجزء معدّاً لجزء آخر وهكذا ، فلأنّ ذلك الجزء وإن كان قصيراً جدّاً فهو قابل للقسمة إلى أجزاء ، بعضها يتقدّم ، وبعضها يتأخّر ؛ فيلزم اجتماع أجزاء هذا الجزء ، ويلزم من اجتماع أجزاء هذا الجزء [اجتماع أجزاء الجزء] الذي يليه ، وهكذا .
وأنت خبير بأنّ الأخذ من الحادث اليومي على سبيل التصاعد ، والقول بأنّ كلّ سابق معدّ للاحقه إلى غير نهاية تدليس محض .
وتمسّك بعضهم لدفع هذا الإشكال بإثبات الحركة التوسّطيّة والآن السيّال : لأنّهما ذات جهتين : الاستمرار والتجدّد ، فمن جهة الاستمرار صدرتا عن القديم ، ومن جهة التجدّد صارتا واسطتين في صدور الحادث عن القديم .
وفيه : أنّه لو تمّ هذا لزم أن يكون إمكان حدوث جميع أجزاء العالم بهذا الوجه ، فلا يلزم القدم الشخصي في شي‏ء من أجزاء العالم ، وهو خلاف مذهبهم ، مع أنّ لنا أن ننقل الكلام إلى جهة التجدّد ، فإن كانت موجودة في‏الواقع فيعود الكلام السابق بعينه ، وإذا لم تكن موجودة فلا يمكن أن يصير واسطة .
الطريق الرابع : ما ذكره المحقّق الدوّاني ، وهو اختيار أنّه لم يكن جميع ما لابدّ منه في وجوده متحقّقاً في الأزل ؛ إذ من جملته تعلّق الإرادة بوجوده في الأزل [ولم تتعلّق الإرادة بوجوده في الأزل‏] بل بوجوده فيما لا يزال من الأوقات الآتية لحكمة ومصلحة .
ولا يرد : أنّ التعلّق في الأزل بوجوده إمّا أن يكون متمّماً للعلّة أو لا ، وعلى الأوّل يلزم وجوده في الأزل : لامتناع التخلّف ، وعلى الثاني يحتاج المعلول إلى آخر سوى هذا التعلّق ، وهو خلاف المفروض . على أنّا ننقل الكلام إلى هذا الأمر .
لأنّا نقول : القدرة لا تؤثّر على خلاف الإرادة ، وقد تعلّقت الإرادة بوجوده في وقت معيّن ، فلا يوجد إلّا فيه .
الطريق الخامس : ما ذكره المحقّق الطوسي رحمة اللَّه عليه في التجريد ، وهو : أنّ التخلّف عن العلّة التامّة إنّما يستحيل إذا أمكن وجود طرفين يمكن تحقّق المعلول في كلّ منهما ومع ذلك خصّ وجود المعلول بالأخير منهما من غير تفاوت في أجزاء العلّة وشرائط إيجابها بالنسبة إلى الوقتين ، وهنا ليس كذلك ؛ إذ الوقت من جملة أجزاء العالم ، فلا وقت قبل حدوث العالم حتّى يُسئل عن حدود ذلك الوقت ، وإنّه لِمَ لم يقع المعلول في تلك الحدود ووقع فيما وقع فيه ، ولعلّ هذا الطريق يرجع إلى الطريق الثاني‏۴ .
الشبهة الثانية : أنّ العالم ممكن ، وإمكان وجوده في الأزل ؛ إذ لو كان ممتنعاً في الأزل وصار ممكناً لزم الانقلاب المحال ، وإذا أمكن وجوده في الأزل ، والباري تعالى قادر كامل في تأثيره ، جواد محض لا يفيض إلّا ما ينبغي ، لا لعوض ولا لغرض ، فما أوجد العالم إلّا لجوده الذي هو مقتضى ذاته ، فوجب أن يوجد العالم أزلاً .
والجواب : أن يقال : ما أردت بقولك : والقادر تعالى كامل في تأثيره ؟ إن أردت أنّه لا نقص في ذاته وصفاته الكماليّة كقدرته وعلمه وإرادته ، وفي اقتضاء ذاته القديمة إفاضة الخير والجود ، فذلك مسلّم ، ولا يلزم منه وجوب إيجاد العالم أزلاً ؛ لجواز توقّف الإيجاد على شرط يقتضيه العلم بالأصلح ، وإن أردت به أنّ الفاعل في الأزل مستجمع لشرائط التأثير فهو ممنوع ، والمستند ما مرّ .
والحاصل : أنّ مقتضى كونه كاملاً جواداً في ذلك أنّه لا ينفكّ عن ذاته إفادة ما ينبغي ، الذي هو عبارة عمّا هو الأصلح بالنظام بحسب علمه القديم ، والأصلح إنّما هو وجود العالم فيما لا يزال .
واُجيب أيضاً بأنّ هذه الشبهة مبنيّة على استلزام أزليّة الإمكان لإمكان الأزليّة ، وهو ممنوع ، فإنّ معنى الأوّل استمرار إمكان الشي‏ء وجواز وجوده ، ومعنى الثاني جواز أن يوجد الشي‏ء وجود استمراره أزلاً وأبداً ، وظاهرٌ أنّ استلزام الأوّل للثاني ليس ممّا يطلب له دليل .
الشبهة الثالثة۵ : أنّه لا يجوز أن يكون فعله تعالى معدوماً ثمّ يوجَد ؛ إذ العدم الصريح لا تميّز فيه حتّى يكون إمساك الفاعل عن إيجاده في بعض أحواله أولى من إيجاده في بعض ، وحتّى يكون الصدور من الفاعل أولى في بعض الأحوال من صدوره في بعض ، بل لو كان صدوره واجباً لكان في جميع الأحوال ، أو لا صدوره كان في جميع الأحوال ، فيلزم إمّا قدم الفعل أو عدمه بالمرّة ، وهذا في الحقيقة ردّ على من قال : إنّما حدث في الوقت لأنّه كان أصلح لوجوده ، أو كان ممكناً فيه ، وتقييد العدم بالصريح احتراز من العدم الحادث المسبوق بالمادّة .
واُجيب : بأنّه لا شكّ أنّ جميع [المعلولات‏] قديمها وحديثها معدوم مطلق في هذه المرتبة۶ ، وكيف يتعلّق الجَعْل بالقديم ولم يتعلّق بالحوادث إلّا بعد مدّة غير متناهية ؟ فالحقّ أنّ التميّز العلمي في علمه تعالى كاف في الجميع ، وإن كانت في الخارج معدومة صِرفة ، فهو سبحانه يعلم في ذاته الجميع ، ممكنها وممتنعها مطلقاً ، أو على بعض أنحاء الوجود ، وأراد ما أراد منها على الوجه الذي تقتضيه الحكمة والمصلحة ، وتؤثّر القدرة على وفق الإرادة ، فيوجد العالم على النظام الذي وجد ، بلا تغيّر في ذاته وصفاته الذاتيّة ، وإنّما التغيّر والتفاوت فيما عداه بالإمكان والامتناع ، والتقدّم والتأخّر ، والصغر والكبر إلى غير ذلك من التفاوت ، ولا يمكن للعقول إدراك كنه تأثيراته وإيجاداته تعالى شأنه ، كما يستفاد من الآثار والأخبار ، وقد ظهر الفرق بين أزليّة الإمكان وإمكان الأزليّة ، فتدبّر .
الشبهة الرابعة : أنّ الزمان لو كان حادثاً لكان معدوماً قبل وجوده قبليّةً انفكاكيّة لا يجامعها بحسبها القبل والبعد في الوقوع ، وهذه القبليّة معروضها بالذات أجزاء الزمان بعضها بالنسبة إلى بعض ، ولا يوصف بها ما عدا الزمان [إلّا بالعرض من جهة مقارنة الزمان‏] ، فإذاً يلزم وجود الزمان على تقدير عدمه ، وهذا خلف ، ويمكن بمثل هذا البيان إثبات امتناع العدم اللاحق على الزمان ، فثبتت سرمديّته .
واُجيب : بأنّا لا نُسلّم أنّ العدم الصرف الذي صوّرناه قبل العالم يمكن أن يتّصف بشي‏ء ، كيف وهو نفي صرف ولا شي‏ء محض في الواقع . نعم ، بعد وجود العالم وتحقّق الموجودات ربّما يمكن سريان بعض هذه الأحكام إلى العدم ، ولو سلّم فلا نسلّم أنّ منشأ استحالة اجتماعه مع الوجود اللاحق هو اتّصافه بالسبق ، بل يجوز أن يكون ؛ لأنّهما متقابلان بالإيجاب والسلب ، ولأجل هذا التقابل لا يجتمعان ، ولو سلّم فلا نسلّم أنّ مثل هذا السبق لا يعرض إلّا للزمان ، ودون إثباته خرط القتاد .
وغاية ما يلزم من دليلهم - على تقدير تسليمه - أنّ هذا النوع من السبق يعرض للزمان بالذات ، وأمّا إثبات أنّه لا يعرض لغير الزمان إلّا بواسطة فلا سبيل لهم إليه ، والمشهور بين المتكلّمين في جواب هذا الدليل إثبات قسم آخر للسبق ، سمّوه بالسبق بالذات .
قال المحقّق الطوسي رحمة اللَّه عليه في قواعد العقائد : التقدّم يكون بالذات كتقدّم الموجد على ما يوجد ، أو بالطبع كتقدّم الواحد على الاثنين ، أو بالزمان كتقدّم الماضي على الحاضر ، أو بالشرف كتقدّم المعلّم على المتعلّم ، أو بالوضع كتقدّم الأقرب إلى مبدءٍ على الأبعد ، والمتكلّمون يزيدون على ذلك : المتقدّم بالرتبة كتقدّم الأمس على اليوم .
وقال الرازي : إنّا نثبت نوعاً آخر من التقدّم وراء هذه الأقسام الخمسة ، والدليل عليه : أنّا ببديهة العقل نعلم أن الأمس متقدّم على اليوم ، وليس متقدّماً بالعلّيّة ، ولا بالذات ، ولا بالشرف ، ولا بالمكان ، ولا يمكن أن يكون متقدّماً بالزمان ، وإلّا لزم أن يكون ذلك الزمان حاصلاً في زمان آخر ، ثمّ الكلام في الزمان الثاني كما في الأوّل ، فيفضي إلى تحصيل أزمنة لا نهاية لها دفعة واحدة ، ويكون كلّ منها ظرفاً للآخر وذلك محال ، فهو تقدّم خارج عن هذه الأقسام ، فنقول : تقدّم عدم العالم على وجوده ، وتقدّم وجود اللَّه على وجود العالم يكون على هذا الوجه ويزول الإشكال‏۷ .

1.في البحار : « العلاقة الناعتيّة » .

2.الرحمن (۵۵) : ۲۹ .

3.الأعراف (۷) : ۵۴ .

4.وقد أورد العلّامة المجلسي طريقاً سادساً في الجواب عن الشبهة الاُولى بقوله : «إنّ إمكان وجود المعلول معتبر ، وهو من شرائط قبول المعلول للوجود ، لا من شرائط تماميّة الفاعل في التأثير ؛ لكونه من متمّمات ذات المعلول المفتقر إلى المؤثّر ، ويجوز أن يكون بعض أنحاء الوجود بالنسبة إلى ماهيّة واحدة ممكنة دائماً ، وبعض آخر ممتنعاً بالذات دائماً كما بين في محلّه ، ومثل هذا لا يستلزم تغيير أصلاً ، لا من طرف العلّة ولا من طرف المعلول حتى تطلب له سبباً ، بل اُبداً هذا النحو من الوجود ممكن وذاك ممتنع . إذا تقرّر هذا فنقول : لعلّ الوجود الدائمي لا تقبله الماهية الممكنة أصلاً ، وقد مرّ من الأخبار والمؤيّدات العقليّة ما يؤكّده ، وسيظهر تأييد آخر من جواب النقض على دليلهم . وبالجملة ، يجب عليهم إثبات أنّ الممكن يقبل الوجود الأزلي حتّى يتمّ دليلهم ، ودونه خرط القتاد» . بحار الأنوار ، ج ۵۴ ، ص ۲۹۳ .

5.نقلها المجلسي قدّس سره عن صاحب المحاكمات .

6.في البحار : لاشكّ أن جميع المعلولات . . . معدوم مطلق في مرتبة وجود العلّة .

7.ورد هذا التحقيق في حدوث العالم بتفصيل أكثر في بحار الأنوار ، ج ۵۴ ، ص ۲۷۸ - ۳۰۵ ( المقصد الخامس في دفع بعض شُبه الفلاسفة . . . ) وبعض الإضافات أثبتناها منه .


مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
414

الحديث التاسع والتسعون والمائتان‏

[كان اللَّه ولا شي‏ء غيره‏]

۰.ما رويناه بالأسانيد السالفة عن ثقة الإسلام في الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سمعته يقول : « كان اللَّه ولا شي‏ء غيره ، ولم يزل عالماً بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه »۱ .

تحقيق مرام : [حدوث العالم‏]

لا خلاف بين كافّة المسلمين - بل ساير الملّيّين - أنّ ما سوى اللَّه تعالى حادث ، وأنّ لوجوده ابتداء .
قال الفاضل الشهرستاني رحمة اللَّه عليه في نهاية الإقدام :
مذهب أهل الحقّ من الملل كلّها أنّ العالم محدَث مخلوقٌ ، له أوّلٌ ، أحدثه الباري تعالى وأبدعه بعدَ أن لم يكن ، كان اللَّه ولم يكن معه شي‏ء ، ووافقهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة .
إلى آخر كلامه .
وقال السيّد الداماد في القبسات : القول بقدم العالم نوعُ شركٍ . وقال في موضع آخر : إنّه إلحاد .
وبالجملة ، فالمسألة كادت أن تكون من ضروريّات الدين ، وإنّما الكلام في معنى الحدوث ، فالمشهور أنّ له معنيين : الذاتي ، والزماني .
وأثبت السيّد الداماد رحمة اللَّه عليه في القبسات قسماً ثالثاً ، وهو الحدوث الدهري ، وقال :
إنّه هو محلّ النزاع بين الفلاسفة والحكماء ، وإنّ من قال منهم بحدوث العالم فإنّما أراد به الحدوث الدهري ، وأثبت للوجودات وعائين آخرين سوى الزمان ، وهما : الدهر والسرمد ، وقال : نسبة المتغيّر إلى المتغيّر ظرفها الزمان ، ونسبة الثابت إلى المتغيّر ظرفها الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت ظرفها السرمد .
ونقل على ذلك شواهد كثيرة من قول الشيخ الرئيس في التعليقات والشفاء والمحقّق الطوسي رحمة اللَّه عليه وغيرهما ، وقال‏۲ :
لا يتوهّم في الدهر والسرمد امتداد ، وإلّا لكان مقداراً للحركة ، ثمّ الزمان كمعلول الدهر والدهر كمعلول السرمد .
وكيف كان ، فالذي يجب اعتقاده ودلّت عليه الآيات القرآنيّة والنصوص المعصوميّة : أنّ جميع ما سوى الحقّ تعالى أزمنة وجوده في جانب الأزل متناهية ، ولوجوده ابتداء ، والأزليّة وعدم انتهاء الوجود مخصوص باللَّه تعالى ، سواءاً كان قبل الحوادث زمان موهوم - كما عليه المتكلّمون - ، أو دهر كما عليه السيّد ومن وافقه .
وكيف كان ، فإن كان الزمان عبارة عن مقدار حركة الفلك فلا معنى لكون الأشياء المخلوقة قبل الفلك والمبدعة قبل وجوده حادثة زمانيّة لحدوث الزمان بعدها ، فالحقّ مع السيّد ، وإن منعنا كون الزمان مقدار حركة الفلك لعلمنا بديهة بأنّه إذا لم يتحرّك الفلك أصلاً يتوهّم هذا الامتداد المسمّى بالزمان ، أمكن القول بالحدوث الزماني في الجميع ، وعلى كلّ من القولين فالعالم بأسره مسبوق بالعدم الصِرف والليس المطلق .

1.الكافي ، ج ۱ ، ص ۱۰۷ ، باب صفات الذات ، ح‏۲ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج ۵۴ ، ص ۱۶۱ ، ح‏۹۷ .

2.هذا قول الشيخ في الشفاء .

  • نام منبع :
    مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
    سایر پدیدآورندگان :
    السید عبد الله‏ شبّر، تحقیق: مجتبى محمودى
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 10734
صفحه از 719
پرینت  ارسال به