341
مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار

( كنهها ) يعني ذاتها وجوهرها وما به قوامها .
( الربوبيّة ) يعني التشبّه بالربّ والتخلّق بأخلاقه في جميع صفاته وأفعاله حتّى في الخلق والإيجاد ، لا بمعنى خلق الأجسام ، بل بمعنى إحيائها بالتعليم والإرشاد « وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا »۱ .
والمراد : صيرورته ربّا لقواه البهيميّة وشهواته النفسانيّة ، ومسلّطاً عليها بالرياضات والمجاهدات ، فلا تحصل إذاً حقيقة العبوديّة إلّا بحصول حقيقة الربوبيّة بهذا المعنى ، كما يحكى أنّ الإسكندر الرومي وقف بين يدي ديوجانس الزاهد الحكيم وكان في الشمس ، فقال له : ما حاجتك ؟ فقال : حاجتي أن تتنحّى عنّي حتّى تقع الشمس عليَّ ، فقال له الإسكندر : ما هذا التهاون بي ، أما تعرفني ؟ فقال له ديوجانس : أعرفك إنّك عبد عبدي ، فقال : وكيف ذلك ؟ فقال : لأنّي ملكت الطبيعة والشهوة واستعبدتهما ، وهما ملكاك واستعبداك ، فأنت عبدٌ لمن استعبدُتُه .
وبتقرير آخر : أنّ العبوديّة جوهرة كنهها ومآلها التخلّق بأخلاق الربوبيّة ، كما ورد في بعض الأخبار : « تخلّقوا بأخلاق اللَّه »۲ ، وفي بعضها : « يابن آدم أطعني أجعلك مِثلي ، تقول للشي‏ء : كن فيكون »۳ .
وقوله : ( فما فُقدَ من العبوديّة وُجد في الربوبيّة ) ، لمّا ذكر عليه السلام أنّ كنه العبوديّة وحقيقتها هي التخلّق بأخلاق الرب والاتّصاف بصفاته ، وحينئذٍ فما فقد من العبوديّة من صفات الكمال للنقصان الذاتي ، أو لعدم القابليّة فلابدّ وأن يكون موجوداً في‏مرحلة الربوبيّة لكماله الذاتي .
( وما خفي عن الربوبيّة ) أي من صفاتها وكمالاتها الفعليّة ، فمظهره العبوديّة والمخلوقيّة ؛ لأنّها المظاهر لأسماء اللَّه وصفاته كما اُشير إليه في الحديث القدسي : « كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرف ، فَخلقتُ الخلق لكي اُعرف »۴ . ويحتمل أن يكون المراد أنّ ما خفي عن الربوبيّة من الاتّصاف بصفات الكمال ، فبملاحظة مرحلة نقص العبوديّة وحقارتها وانقيادها واحتياجها يستدلّ على مزيّة الربوبيّة وجامعيّتها للكمال .
وقيل : إنّ المعنى : أنّ المتدبّر المتفكّر في حقيقة العبوديّة والطالب لحقيقتها ، المتفحّص عن أركانها وأجزائها ، إن فقد شيئاً في بيداء فكرته والتدبير في حقيقتها وجده في الربوبيّة ، يعني لمّا كان معرفة حقيقة العبوديّة محالة على معرفة حقيقة الربوبيّة - بأحد المعنيين المتقدّمين - فما فقده العبد وغاب عنه في مقام معرفة حقيقة العبوديّة وطريق العبادة والإطاعة ولم تبلغ إليه فطنته ، فلابدّ أن يلاحظ حقيقة الربوبيّة بأحد المعنيين ، فيعثر حينئذٍ على ما فقده من العبوديّة ، ويطّلع عليه ويصير خبيراً بمجامع شرائط العبوديّة وأطوارها .
( وما خفي عن الربوبيّة اُصيب في العبوديّة ) يعني : إن أشكل عليك الإحاطة بمقام الربوبيّة بأحد المعنيين المتقدّمين والمعرفة بأطوارها وخفي عن مقامك هذا شي‏ء لم تعرفه اُصيب في العبوديّة يعني : يحصل لك العلم بذلك المخفي في مرحلة العبوديّة والعبادة والإطاعة بقدر ما علمته منها وأحطت به ، كما يدلّ عليه قوله : « من عَمِلَ بما عَلِم ظهر له علم ما لم يَعلم »۵ . فمعرفة طريقة الربوبيّة يصير سبباً لمعرفة طريقة العبوديّة ، والعمل بمقتضى العبوديّة بقدر ما علمه يصير سبباً لظهور ما لم يعلم من مرتبة الربوبيّة ، فبذلك تتمّ العبوديّة ويكمل .
فحاصل الكلام : أنّ كنه العبوديّة هو المشي على طريقة الربوبيّة ولو كان على وجه المشابهة ، فما وصل إليه عقلك في استدراك طريقة الربوبيّة فالعمل عليه هو نفس العبادة ، والممشى عليه هو الممشى على طريقة العبوديّة ، وما لم يصل إليه عقلك من طريقة الربوبيّة فعليك بالعمل فيما عرفته من العبوديّة ، فإنّه يوصلك إلى ما لم تعرفه من الربوبيّة التي هي كنه العبوديّة وأصله ، فيصير بعد ذلك كاملاً في العبوديّة واصلاً إلى كنهها وسنخها عن الممشى على طريقة الربوبيّة بأحد المعنيين المتقدّمين .
وقوله تعالى : « سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَ فِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى‏ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى‏ كُلِ‏ّ شَىْ‏ءٍ شَهِيدٌ » أي موجود في غيبتك وحضرتك ، يعني : أنّ حقيقة العبوديّة وكنهه‏۶ هو التشبيه بالربّ والتخلّق بأخلاقه والتنزّه عن القوّتين الشهويّة والغضبيّة حتّى يحصل بذلك التجرّد وقطع العلائق وقطع النظر عمّا سوى اللَّه وعدم الالتفات إلى غيره ممّا اقتضاه الهوى ، فيحصل للعبد الانقطاع إليه تعالى بكلّيّته والتوجّه إليه بأجمعه .
ووجه كون العبوديّة ذلك ولزوم بلوغ العبد في العبادة إلى هذه المرتبة أنّه تعالى على كلّ شي‏ء شهيد وموجود ورقيب في حال حضورك مع اللَّه وحال غيبتك وغفلتك عنه ، يعني : إذا كان اللَّه تعالى من العبد بهذه المثابة من القرب والحضور فلابدّ أن يسلك في عبادته المسلك المذكور ، يعني التشبيه بالربّ في الأخلاق والصفات ، والتسلّط على القوى البهيميّة وقهرها بالمرّة ، فلابدّ أن تعبده كأنّك تراه ، كما يشير إلى ذلك ما ذكره في مصباح الشريعة بعد هذا الكلام المنقول ، فقال : « وتفسير العبوديّة بذل الكلّيّة ، وسبب ذلك منع النفس عمّا تهوى وحملها على ما تكره ، ومفتاح ذلك ترك الراحة ، وحبّ العزلة ، وطريقة الافتقار إلى اللَّه تعالى ، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله : اعبد اللَّه كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، وحروف العبد ثلاثة : العين ، والباء ، والدال ، فالعين علمه باللَّه تعالى ، والباء بونه عمّا سواه ، والدال دنوّه من اللَّه بلا كيف ولا حجاب »۷ ، انتهى .
فإنّه عليه السلام لمّا أشار إلى كنه العبوديّة على سبيل الإجمال أراد تفسيرها وتوضيحها فقال : إنّها بذل الكلّيّة يعني التجافي عن الطبيعة بكلّيّتها ، وسبب ذلك البذل والتدبّر الذي يحصل به ذلك : منع النفس عمّا تهوى ، وهو مخالفة القوّة الشهويّة ، وحملها على ما تكره ، وهو مخالفة القوّة الغضبيّة ، ومفتاح ذلك المنع والحمل الذي يسهّل صعبها ويحلّ مقفلها : ترك الراحة وحبّ العزلة ، وسبيله الافتقار إلى اللَّه ، يعني : الانقطاع برمّته إليه بحيث لا يزعم لنفسه مناصاً ولا عن التوجّه إليه خلاصاً .
وقوله عليه السلام : « قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله » إلى آخره استشهاد لهذا التفسير ، يعني : أنّ عبادته تعالى بحيث تخيّل أنّك تراه كما أمر به » لا يكون إلّا بذلك ، فإنّه ما لم يزل الاعتماد عن القلب ولم تنقطع العلائق عن مقتضى الشهوة والغضب لا تحصل هذه الحالة ، فيتمّ الاستشهاد حينئذٍ بقوله تعالى : « أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى‏ كُلِ‏ّ شَىْ‏ءٍ شَهِيدٌ » .
ثمّ أشار أيضاً إلى وجه تسمية العبد عبداً من باب الرمز والإشارة بحيث يدلّ اسمه على مسمّاه ، فالعبوديّة فعل من أفعال العبد ، ويزيد العبد على العبوديّة بالاشتمال على مقدّمة المعرفة ، وهو ما اُشير إليه بحرف العين ، وخاصيّتها الدنوّ والقرب الذي هو غاية العبوديّة ، وهو ما اُشير إليه بحرف الدال ، وأمّا الباء فهو نفس العبوديّة التي عبّر عنها ببذل الكلّيّة في التفسير وبالربوبيّة في كلام الإمام عليه السلام ، فإنّ البون عمّا سواه تعالى هو الانقطاع عن مقتضى الطبيعة والغلبة على القوى البهيميّة ، فإنّه هو الذي يجرّ العبد إلى الدنوّ بلا كيف ولا حجاب ، أمّا كونه بلا كيف لتنزّهه تعالى عن أن يصل إليه أفكار الخلائق ، ولمّا كان القرب والدنوّ من باب التضايف ولا يعلم حقيقته إلّا بمعرفة حقيقة المتضايفين ، فاستلزم ذلك عدم معرفة حقيقة القرب وكيفيّته .
وأمّا قوله عليه السلام : ( بلا حجاب ) فالمراد به : القرب الحاصل ، فالغرض جلب النفع لا دفع الضرر ؛ إذ المراد أنّ القرب لابدّ أن يحصل حال كون العبد خالياً من حجاب من سائر العلائق ، فلم يبق له مطلوب إلّا هو ، ولا محبوب سواه ، فبقي هو وحده في نظره ويفنى ما سواه ، واللَّه العالم .

1.المائدة ( ۵ ) : ۳۲ .

2.بحار الأنوار ، ج ۵۸ ، ص ۱۲۹ .

3.مستدرك الوسائل ، ج ۱۱ ، ص ۲۵۸ مع اختلاف في العبارة .

4.بحار الأنوار ، ج ۸۴ ، ص ۱۹۸ ؛ وص ۳۴۴ .

5.انظر : ثواب الأعمال ، ص ۱۳۳ ؛ بحار الأنوار ، ج ۴۰ ، ص ۱۲۸ ، ذيل ح ۲ . وفيهما معاً : قول النبيّ صلى اللَّه عليه وآله : « من عَمِلَ بما عَلِم ظهر له علم ما لم يَعلم » .

6.كذا ، والأنسب تأنيث الضمير .

7.مصباح الشريعة ، ص ۸ .


مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
340

الحديث السابع والخمسون والمائتان‏

[العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة]

۰.ما رويناه من كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة ، قال : قال الصادق عليه السلام : « العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة ، فما فقد من العبوديّة وجد في الربوبيّة ، وما خفي عن الربوبيّة اُصيب في العبوديّة ، قال اللَّه تعالى : « سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَ فِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى‏ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى‏ كُلِ‏ّ شَىْ‏ءٍ شَهِيدٌ »۱ »۲ .

تحقيق وإيضاح‏

الكتاب المذكور غير معلوم مؤلّفه ولا حاله ، وربّما نسبه بعضٌ إلى الشهيد الثاني ، وهو خطأ - كما ستعرفه - لأنّ الشيخ الطوسيّ روى بعض أخباره ، والسيّد ابن طاوس ذكره في وصاياه لولده ، وقال العلّامة المجلسيّ رحمة اللَّه عليه في المجلّد الأوّل من البحار :
كتاب مصباح الشريعة فيه بعض ما يريب اللبيب الماهر واُسلوبه لا يشبه سائر كلمات الأئمّة وآثارهم ، وروى الشيخ في مجالسه بعض أخباره هكذا : أخبرنا جماعة عن أبي الفضيل الشيباني بإسناده عن شقيق البلخي عمّن أخبره من أهل العلم ، وهذا يدلّ على أنّه كان عند الشيخ رحمة اللَّه عليه وفي عصره وكان يأخذ منه ، ولكنّه لا يثق به كلّ الوثوق ، ولم يثبت عنده كونه مرويّاً عن الصادق عليه السلام وأنّ سنده ينتهي إلى الصوفيّة ، ولذا اشتمل على كثير من اصطلاحاتهم وعلى الرواية عن مشايخهم ومن يعتمدون عليه في رواياتهم واللَّه يعلم‏۳ . انتهى .
وقال السيّد ابن طاووس رحمة اللَّه عليه في كتاب كشف المحجّة لثمرة المهجة فيما أوصى به ولده :
انظر إلى كتاب المفضّل بن عمر الذي أملاه الصادق عليه السلام فيما خلق اللَّه جلّ جلاله من الآثار ، وانظر إلى كتاب الإهليلجة وما فيه من الاعتبار ، وكتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة المنسوب إلى مولانا الصادق عليه السلام‏۴ .
وقال رضي اللَّه عنه في كتاب أمان الأخطار فيما يستحبّ للمسافر أن يصحب معه ، قال :
ويصحب معه كتاب مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة ، وهو كتاب لطيف شريف في التعريف بالتسليك إلى اللَّه جلّ جلاله ، والإقبال عليه ، وانظر بالأسرار التي اشتملت عليه‏۵ . انتهى .
وكيف كان ، فالكلام في الخبر على تقدير صحّته وثبوته ، واللَّه أعلم :
قوله عليه السلام : ( العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة ) العبوديّة إمّا أن تكون مصدراً من صفة الذات بمعنى كون الشخص عبداً أو صيرورته عبداً ، أو مصدراً لصفة الفعل ، مثل : عابد ، ويكون المراد منها أيضاً كون الشخص عابداً أو صيرورته عابداً متعبّداً ، فهي بمعنى الإطاعة والانقياد والخضوع ، أي كونه مطيعاً ، أو صيرورته مطيعاً .
ومعنى الربوبيّة كونه ربّاً بمعنى مالكاً أو مستحقّاً ، أو صيرورته كذلك ، وصيرورته كذلك ، إمّا بحصوله من باب الاتّفاق والأسباب الخارجيّة ، كانتقال المال إليه بالميراث ، فيصير المنتقل إليه ربّ المال ، وإمّا بفعله فعلاً يوجب التربية ، وهذا هو المناسب في مقابلة العبوديّة بمعنى الإطاعة ، فالعبوديّة بمعنى صيرورة الشخص مطيعاً بإتيان ما هو بمعنى الإطاعة ، والربوبيّة بمعنى صيرورة الشخص مطاعاً بتأسيس ما يوجب الإطاعة ، فقوله عليه السلام : «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة» معناه : أنّ ماهية العبوديّة وحقيقتها إطاعة العبد وخضوعه وانقياده لمولاه .
( جوهرة ) أي خصلة عزيزة نفيسة تشبيهاً لها بالجوهرة الغالية الثمينة .

1.فصّلت ( ۴۱ ) : ۵۳ .

2.مصباح الشريعة ، ص ۷ ؛ وعنه في تفسير نور الثقلين ، ج ۴ ، ص ۵۵۶ ، ح‏۷۷ .

3.بحار الأنوار ، ج ۱ ، ص ۳۲ .

4.المثبّت في كشف المحجّة هو الوصيّة بالنظر إلى كتاب المفضّل والإهليلجة ، وليس فيه مصباح الشريعة ، لكن نقله المجلسي عنه في هذا الكتاب . راجع كشف المحجّة ، ص ۹ ؛ و بحار الأنوار ، ج ۱ ، ص ۱۴ .

5.أمان الأخطار ، ص ۹۱ - ۹۲ .

  • نام منبع :
    مصابيح الأنوار في حلّ مشکلات الأخبار
    سایر پدیدآورندگان :
    السید عبد الله‏ شبّر، تحقیق: مجتبى محمودى
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1390
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 15519
صفحه از 719
پرینت  ارسال به