الحديث الثالث عشر والمائتان
[الإمام لا يغسّله إلّا الإمام]
۰.ما رويناه عن الصدوق في العيون بإسناده في جملة حديث طويل عن الرضا عليه السلام : « أنّ الإمام لا يغسّله إلّا الإمام »۱ .
وفي رواية أبي الصلت عنه : « ما من نبيّ يموت بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلّا جمع اللَّه عزّ وجلّ بين أرواحهما وأجسادهما »۲ .
بيان
قال السيّد المرتضى - على ما حكى عنه جملة من الأصحاب ، وقد سُئل : من المتولّي لغسل الإمام الماضي والصلاة عليه ؟ وهل ذلك موقوف على تولّي الإمام بعده أم يجوز أن يتولّاه غيره ؟ ما لفظه - :
الجواب : قد روت الشيعة الإماميّة أنّ غسل الإمام والصلاة عليه موقوف على الإمام الذي يتولّى الأمر بعده ، وتعسّفوا لما ظاهره بخلاف ذلك ، وهذه الرواية المتضمّنة لما ذكرناه واردة من طريق الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ولا يقطع بمثلها
وليس يمتنع في هذه الأخبار - إذا صحّت - أن يراد بها الأغلب الأكثر ومع الإمكان والقدرة ؛ لأنّا قد شاهدنا ما جرى على خلاف ذلك ؛ لأنّ موسى بن جعفر عليه السلام توفّي بمدينة السلام والإمام بعده عليّ ابن موسى الرضا بالمدينة ، والرضا توفّي بطوس وابنه الجواد بالمدينة ، ولا يمكن أن يتولّى مَن بالمدينة مَن بطوس أو من بمدينة السلام .
وقد تعسّف بعض أصحابنا فقال : غير ممتنع أن ينقل اللَّه تعالى الإمام من مكان شاسع إلى مكان في أقرب الأوقات ، ويطوي له البعيد ، فيجوز أن ينقل من المدينة إلى مدينة السلام وطوس في الوقت .
والجواب عن هذا : أنّا لا نمنع من إظهار المعجزات وخرق العادات للأئمّة عليهم السلام إلّا أنّ خرق العادة إنّما هو في إيجاد المقدور دون المستحيل ، والجسم لا يجوز أن ينقل إلى الأماكن البعيدة إلّا في أزمنة مخصوصة ، فأمّا أن ينتقل إلى البعيد من غير زمان فهو محال ، وما بين المدينة وبغداد وطوس من المسافة لا يقطعها الجسم إلّا في زمان لا يمكن معها أن يتولّى مَن هو بالمدينة غسل مَن هو ببغداد .
فإن قيل : ألا ينتقل كما ينتقل الطائر من البعيد في أقرب مدّة ؟
قلنا : ما ننكر اختلاف انتقال الأجسام بحسب الصور والهيئآت ، فإن أردتم أنّ الإمام يجعل له جناح يطير به فهو غير منكر ، إلّا أنّ الثقيل الكبير من الأجسام لا يكون طيرانه في الجثّة مثل صغير الجسم ، ولهذا لا يكون طيران الكراكي۳ ، وما شاكلها في عظم الجسم كسرعة الطيور الخفاف ، وإذا كان الطائر الخفيف الجسم لا يقطع في يوم واحد من المدينة إلى طوس فأجدر أن لا يتمكّن من ذلك الإنسان إذا كان له جناح .
ولا يمكن أن يقولوا : إنّ اللَّه تعالى يعدم الإنسان من هناك ويوجده في الحالة الثانية هنا ؛ لأنّ هذا أيضاً مستحيل من وجه آخر ، لأنّ عدم بعض الأجسام لا يكون إلّا بالضدّ الذي هو الفناء ، وفناء بعض الجواهر فناءٌ لجميعها ، وليس يمكن أن يفنى جوهر مع بقاء جوهر ، على ما دلّلنا عليه في كثير من كلامنا لاسيّما في الكتاب المعروف بالذخيرة .
إلّا أنّه يمكن لمن ذهب من أصحابنا إلى ما حكيناه أن يقول نصرة لطريقه : ما الذي يمنع من أن ينقل اللَّه تعالى الإمام من المدينة إلى طوس بالرياح العواصف التي لا نهاية لما يقدر اللَّه تعالى من فعل الاعتمادات فيها۴ ؟ وما المنكر من أن نقول في هذه الريح التي تنقله ما تزيد سرعة على سرعة الطائر الخفيف المسرع ، فينتقل في أسرع الأوقات ؟
والذي يبطل هذه التقديرات لو صحّت أو صحّ بعضها أنّا قد علمنا أنّ الإمام لو انتقل من المدينة إلى بغداد وطوس لغسل المتوفّى والصلاة عليه لشوهد في موضع الغسل والصلاة ؛ لأنّه جسم والجسم لابدّ أن يراه صحيح العين ، ولو شوهد لهم لنقل خبره ، ولم يخف على الحاضرين ، وكيف يجوز ذلك وقد نقل في التواريخ من تولّى غسل هذين الإمامين ، وسمّي أو عُيِّن عليه ، وهذا يقضي أنّ الأمر على ما اخترناه ممّا قدّمنا ذكره۵ . انتهى كلامه رحمة اللَّه عليه .
ولا يخفى ما فيه من الوهن والقصور ، فإنّ استبعاد مثل هذه الأشياء بالنسبة إليهم عليهم السلام مع ما صدر منهم من الكرامات الظاهرة والمعجزات الباهرة في غاية البعد ، وردُّ الأخبار التي تفرّدت الإماميّة بها وكانت من خواصّهم بمجرّد الاعتبارات الواهية الضعيفة جرأة عظيمة ، والاستبعاد بالنسبة إلى معجزاتهم وخوارق عاداتهم بعيد .
وما أجاب به عمّا أورده لا طائل تحته ؛ لأنّ قوله : «إنّ خرق العادة إنّما هو في إيجاد المقدور» إن أراد به ما يتعلّق به قدرة الإنسان فغير مسلّم ؛ لأنّ ذلك ليس خرقاً للعادة ، وإن أراد به ما يتعلّق به قدرة اللَّه تعالى - كما هو الظاهر - فمسلّم ولا يكون حينئذٍ من المستحيل في شيء ؛ لأنّ قدرة اللَّه تعالى تتعلّق بكلّ مقدور ، وجميع المحالات العادية مقدورة له تعالى ، فانتقال الجسم إلى المكان البعيد من هذا الباب .
وقوله : «إنّ الانتقال من غير زمان محال» إلزام بما يلتزمونه ؛ فإنّهم لا يدّعون وقوع ذلك من دون زمان .
ثمّ إنّه رحمة اللَّه عليه ذكر لطريقة انتقال الإمام النائي ثلاثة وجوه وزيّفها : الطيران ، وطريقة الإعدام والإيجاد ، وطريقة الرياح العواصف ، وأنت خبير بأنّه بعد تسليم امتناع هذه الثلاثة أنّ القائل بذلك لا يلتزم بشيء منها ؛ إذ الحصر فيها ممنوع ، بل إنّ اللَّه قادر على كلّ شيء ، والعقول قاصرة عن الإحاطة بطرق قدرته تعالى .
ثمّ إنّه رحمة اللَّه عليه كأنّه استشعر ضعف ما استدلّ به على الامتناع فالتجأ إلى دليل آخر ، وهو أنّه لو وقع ذلك لعلمناه ولنقل إلينا ولشوهد الإمام حال الغسل والصلاة ، وما نقل المؤرّخون على واحد بعينه .
فيقال له رحمة اللَّه عليه : إنّا قد علمنا ذلك بنقل الثقات ، وقد شوهد الإمام في حال الغسل والصلاة أيضاً إلّا أنّ المشاهدة لم تكن عامّة لكلّ أحد ؛ لأنّ ذلك مقتضى التقيّة التي هي من ضروريّات مذهب الإماميّة ، بل إنّما شاهده الخُلّص المأمونون ، كما نقل عن تغسيل الكاظم وتغسيل الرضا عليهما السلام ، فإنّ المسيّب بن زهير هو الذي شاهد الرضا عليه السلام يغسّل الكاظم ويحنّطه ، وقد كلّمه الرضا عليه السلام۶ ، وأبا الصلت الهرويّ وهرثمة بن أعين كلاهما شاهدا الجواد عليه السلام يغسّل الرضا ويصلّي عليه كما روى ذلك الصدوق في العيون۷وغيره ، وأمّا المؤرّخون فلا يذكرون إلّا من غسّله أو صلّى عليه ظاهراً ، فالاستدلال بعدم المشاهدة وعدم ذكر المؤرّخين لا وجه له .
واستبعاد انتقال الجسم من مكان بعيد في زمان قليل قد وقع كثيراً ، مثل : انتقال جسم النبيّ صلى اللَّه عليه وآله من مكّة إلى بيت المقدس ، ثمّ منه إلى مكّة في أقلّ الأزمنة ، ومثل : عروجه بجسمه إلى السماوات إلى سدرة المنتهى ، حتّى كان قاب قوسين أو أدنى ، ممّا نطق به نصّ القرآن ، فلا معنى للاستبعاد .
وبالجملة ، فكلامه رحمة اللَّه عليه في هذا المقام من مثله عجيب ، ولعلّ السائل كان أحد الخلفاء المعاصرين له فاتّقاه رحمة اللَّه عليه ، أو أنّ السائل كان من المخالفين وقصد الطعن على الشيعة ، فأجابه ردّاً لتشنيعه ، أو أنّ هذه الأخبار آحاد وهي بمقتضى طريقته لا توجب علماً ولا عملاً .
1.عيون الأخبار ، ج ۱ ، ص ۲۴۶ ، ضمن ح۱ ؛ وبحار الأنوار ، ج ۲۷ ، ص ۲۸۸ .
2.عيون الأخبار ، ج ۲ ، ص ۲۴۴ ، ضمن ح ۱ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج ۴۹ ، ص ۳۰۲ ، ضمن ح ۱۰ .
3.الكراكي جمع كركي - بضمّ فسكون فكسر - : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، قليل اللحم . المعجم الوسيط ، ج ۲ ، ص ۷۸۴ ( كرك ) .
4.رسائل المرتضى ، ج ۳ ، ص ۱۵۷ - ۱۵۸ .
5.في بعض نسخ المصدر : « من فعلها وإن فيها » .
6.عيون الأخبار ، ج ۲ ، ص ۹۵ .
7.عيون الأخبار ، ج ۱ ، ص ۲۷۲ و۲۷۵ .