تتمّة مهمّة [ مطاعن أعداء الدين في القرآن ]
اعلم أنّ فصحاء العرب وحذّاق أرباب البلاغة والخطب مع كمال حذاقتهم في أسرار بلاغة القرآن وفرط عداوتهم للمسلمين والإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالاً ولم يوردوا في القدح مقالاً ، حتّى نسبوه الى السحر على ما هو دأب المحجوج المبهوت ؛ تعجّباً من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته حتّى انتهى الأمر من بعدهم إلى قوم من الزنادقة أعداء الدين ، وفرقة من الملحدين ، فاخترعوا مطاعن بديهيّة البطلان مخالفة للوجدان ، يشهد بكذبها الإنس والجانّ :
منها : أنّ فيه كلمات غير عربيّة ك «الاستبرق» و«السجّيل» و«القسطاس» و«المقاليد» ، واللَّه يقول فيه : « بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ »۱ .
ورُدّ بأنّ ذلك من توافق اللغتين كالتنوّر والصابون ، أو المراد أنّه عربيّ النظم والاُسلوب ، أو الكلّ عربيّ على سبيل التغليب .
ومنها : أنّ فيه خطأ من جهة الإعراب مثل : « إِنْ هَذَ نِ لَسَحِرَ نِ »۲ ، وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبُِونَ »۳ ، وقوله : « لَّكِنِ الرَّ سِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ »۴ .
ورُدّ بأنّ ذلك صحيح وموافق للعربيّة كما بُيِّن في محلّه ، وقد ذكره المفسّرون وابن هشام في مغني اللبيب۵ فلا نطيل الكلام بذكره .
ومنها : أنّ فيه ما يكذّبه ، حيث أخبر بأنّه لا يتيسّر للإنس والجنّ أن يأتوا بمثل سورة منه ، وأقلّ السورة ثلاث آيات ، ثمّ حكى تعالى عن موسى - مع اعترافه بأنّ هارون أفصح منه لساناً - مقدار أحد عشر آية منه ، وهو قوله تعالى : « رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَ يَسِّرْ لِى أَمْرِى * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُواْ قَوْلِى » إلى قوله : « إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا »۶ .۷
ورُدّ بأنّ المحكي لا يلزم أن يكون بهذا النظم بعينه ، بل حكاه اللَّه تعالى بالمعنى ، على أنّ اللغات السابقة لم تكن غريبة ضرورةً . على أنّ المختار عند البعض في المتحدّى به سورة من الطوال أو عشر من الأوساط .
ومنها : أنّ فيه متشابهات يتمسّك بها أهل الضلال كالمجسّمة والمجبّرة والقدريّه كقوله تعالى : « الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى »۸ ، « وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا »۹ ، « فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ »۱۰ وغير ذلك .
ورُدّ بأنّ المتشابهات فيها فوائد لا تحصى ، وحكم لا تستقصى ، من الإذعان والتسليم والرجوع إلى الراسخين في العلم والنظر والاجتهاد في طلب المراد ونحو ذلك .
ومنها : أنّ فيه قوله تعالى : « وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفًا كَثِيرًا »۱۱وأنت تجد فيه من الاختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما لا يحصى .
ورُدّ بأنّ الاختلاف المنفي هو التفاوت في مراتب البلاغة ، بحيث يكون بعضه قاصراً عن مرتبة الإعجاز أو مشتملاً على تناقض الأحكام والأخبار .
ومنها : أنّ فيه التناقض كقوله : « فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسَْلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَ لَا جَآنٌّ »۱۲ مع قوله : « فَوَرَبِّكَ لَنَسَْلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ »۱۳ ، وكقوله تعالى : « لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ »۱۴ مع قوله : « وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ »۱۵إلى غير ذلك من المواضع التي يتوهّم منها التنافي بين الكلامين .
ورُدّ بمنع وجود شرائط التناقض ، بل لكلّ من الآيات الظاهرة التنافي معانٍ صحيحة مذكورة في التفاسير وغيرها .
ومنها : أنّ فيه الكذب المحض كقوله تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ» ؛۱۶ للقطع بأنّ الأمر بالسجود قبل خلقنا وتصويرنا .
ورُدّ بأنّ المراد خلق أبينا آدم وتصويره .
ومنها : أنّ فيه الشعر من كلّ بحر ، وقد قال تعالى : « وَ مَا عَلَّمْنَهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ »۱۷ :
فمن بحر الطويل : « فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَ مَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ »۱۸ .
ومن المديد : « وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا »۱۹ .
ومن البسيط : « لِّيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا »۲۰ .
ومن الوافر : « وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ »۲۱ .
ومن الكامل : « وَ اللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَ طٍ مُّسْتَقِيمٍ »۲۲ .
ومن الهزج : « تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا »۲۳ .
ومن الرجز : « دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَلُهَا »۲۴ .
ومن الرمل : « وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَّاسِيَتٍ »۲۵ .
ومن السريع : « قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَمِرِىُّ »۲۶ .
ومن المنسوخ : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَنَ مِن نُّطْفَةٍ »۲۷ .
ومن الخفيف : « أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَ لِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ »۲۸ .
ومن المضارع : « يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ »۲۹ .
ومن المقتضب : « فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ »۳۰ .
ومن المجتثّ : « الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَتِ »۳۱ .
ومن المتقارب : « وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ »۳۲ .
ورُدّ بأنّ مجرّد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي في كونه شعراً ، بل لابدّ من تعمّد الوزن ، ولابدّ عند البعض من التقفية .
على أنّ في كثير ممّا ذكر نوع تغيير ، ولو سلِّم فالتغليب باب واسع .
على أنّ الظاهر أنّ المراد من الشعر المنفيّ والمنهيّ عنه هو التخيّلات والمبالغات في تحسين الأشياء ، كما يقال : هذا كلام شعريّ .۳۳
1.الشعراء : ۱۹۵ .
2.طه (۲۰) : ۶۳ .
3.المائدة (۵) : ۶۹ .
4.النساء (۴) : ۱۶۲ .
5.مغنى اللبيب ، ج ۱ ، ص ۲۳ .
6.طه (۲۰) : ۲۵ - ۳۵ .
7.انظر : مجمع البيان ، ج ۷ ، ص ۳۱ - ۳۳ ؛ و ج ۳ ، ص ۳۴۸ ، ص ۳۴۸ - ۳۸۵ ؛ و ج ۳ ، ص ۲۳۸ - ۲۴۰ .
8.طه (۲۰) : ۵ .
9.الفجر (۸۹) : ۲۲ .
10.إبراهيم (۱۴) : ۴ .
11.النساء (۴) : ۸۲ .
12.الرحمن (۵۵) : ۳۹ .
13.الحجر (۱۵) : ۹۲ و ۹۳ .
14.الغاشية (۸۸) : ۶ .
15.الحاقّة (۶۹) : ۳۶ .
16.الأعراف (۷) : ۱۱ .
17.يس (۳۶) : ۶۹ .
18.الكهف (۱۸) : ۲۹ .
19.هود (۱۱) : ۳۷ .
20.الأنفال (۸) : ۴۲ .
21.التوبة (۹) : ۱۴ .
22.النور (۲۴) : ۴۶ .
23.يوسف (۱۲) : ۹۱ .
24.الدهر (۷۶) : ۱۴ .
25.سبأ (۳۴) : ۱۳ .
26.طه (۲۰) : ۹۵ .
27.الدهر (۷۶) : ۲ .
28.الماعون (۱۰۷) : ۱ و ۲ .
29.غافر (۴۰) : ۳۲ - ۳۳ .
30.البقرة (۲) : ۱۰ .
31.التوبة (۹) : ۷۹ .
32.الأعراف (۷) : ۱۸۳ .
33.تفسير القرآن الكريم لصدر الدين الشيرازي ، ج ۲ ، ص ۱۲۹ - ۱۳۲ .