الحديث الخامس والثمانون والمائة
[صلاة فريضة خير من عشرين حجة]
۰.ما رويناه عن المحمّدين الثلاثة رحمهم اللَّه في الكافي والفقيه والتهذيب بأسانيدهم عن الصادق عليه السلام قال : « صلاة فريضة خير من عشرين حجّة ، وحجّة خير من بيتٍ مملوّ ذهباً يُتصدّق منه حتّى يفنى » أو « حتّى لا يبقى منه شيء »۱ .
وفي بعض الأخبار : « وحجّة خير من الدنيا وما فيها »۲ .
تحقيق
قد اُورد على هذا الحديث إشكالان :
الأوّل : أنّه وردت أخبار كثيرة دالّة على فضل الحجّ على الصلاة ، فما وجه التوفيق بينهما ؟
الثاني : إنّ الحجّ مشتمل على الصلاة أيضاً ، والحجّ وإن كان مندوباً فالصلاة فيه فرض ، فما معنى تفضيل الصلاة الفريضة على عشرين حجّة ؟
واُجيب عن الأوّل بوجوه :
الأوّل : حمل الثواب في الصلاة على التفضّليّ ، وفي الحجّ على الاستحقاقيّ ، أي يتفضّل اللَّه على المصلّي بأزيد ممّا يستحقّه المؤمن بعشرين حجّة ، فلا ينافي كون ما يتفضّل به على الحاجّ أضعاف ما يعطي المصلّي .
فإن قيل : قد روي أيضاً ما يدلّ على أنّ الإنسان لا يستحقّ شيئاً بعمله وإنّما يتفضّل اللَّه تعالى بالثواب عليه .
قلنا : يمكن أن يكون للتفضيل أيضاً مراتب :
إحداهما : ما يتوقّعه الإنسان في عمله وإن كان على سبيل التفضّل ، أو ما يظنّه الناس أنّه يتفضّل به عليه ، ثمّ بحسب كرم الكريم وسعة جوده للتفضّل مراتب لا تحصى ، فيمكن أن يستحقّ الأوّل استحقاقاً كما إذا مدح شاعر كريماً ، فهو لا يستحقّ شيئاً عقلاً ولا شرعاً ، لكن الناس يتوقّعون له بحسب ما يعرفونه من كرم الكريم أنّه يعطيه مائة درهم ، فإذا أعطاه ألفاً يقولون أعطاه عشرة أضعاف استحقاقه .
الثاني : أن تحمل الفريضة على الصلوات الخمس اليوميّة كما هو المتبادر في أكثر الموارد والصلاة التي فضّل عليها الحجّ على غيرها ، بقرينة أنّ الأذان والإقامة المشتملين على (حيّ على خير العمل) مختصّان بها ، فيكون الغرض الحثّ على الصلاة اليوميّة والمحافظة عليها والإتيان بشرائطها وحدودها وآدابها وحفظ مواقيتها ، فإنّ كثيراً من الحاجّ يضيّعون فرائضهم اليوميّة في طريقهم إلى الحجّ ، إمّا بتفويت أوقاتها ، أو بأدائها على المركب ، أو في المحمل بالتيمّم ، أو مع عدم طهارة الثياب أو البدن ، إلى غير ذلك .
فإن قيل : هذا ينافي الخبر المشهور : « أنّ أفضل الأعمال أحمزها » .
قلنا : على تقدير تسليم صحّته المراد به : أنّ أفضل كلّ نوع من العمل أحمز ذلك النوع ، أي أشقّه كالوضوء في البرد والحرّ ، والحجّ ماشياً وراكباً ، والصوم في الصيف والشتاء وأمثال ذلك .
الثالث : أن تحمل الفريضة على عمومها ، والحجّ في المفضّل عليه على المندوب ، وفيالمفضّل على الفرض .
الرابع : أن يراد بالصلاة في هذا الخبر مطلق الفرض ، وبها في الأخبار التي فضّل الحجّ عليها النافلة .
الخامس : أن يراد بالحجّ في هذا الخبر حجّ غير هذه الاُمّة من الاُمم السابقة ، أي صلاة هذه الاُمّة أفضل من عشرين حجّة أوقعتها الاُمم الماضية .
السادس : أنّ المراد أنّه لو صرف زمان الحجّ والعمرة في الصلاة كان أفضل منهما .
واُورد عليه : أنّه إنّما يجري في الخبر الذي تضمّن أنّ خير أعمالكم الصلاة ونحوه لا في هذا الخبر ونحوه .
السابع : أن يقال : إنّه يختلف بحسب الأحوال والأشخاص كما أنّ النبيّ سُئل أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة لأوّل وقتها ، وسُئل أيضاً : أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال : برّ الوالدين ، وسُئل أيضاً : أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال : حجّ مبرور ، فخصّ كلّ سائل بما يليق بحاله من الأعمال . فيقال : كان السائل الأوّل عاجزاً عن الحجّ ولم يكن له والدان ، فكان الأفضل له ذلك ، وكذا الثالث .
الثامن : للعلّامة المجلسيّ رحمة اللَّه عليه وهو أنّه لمّا كان لكلّ من الأعمال مدخل في الإيمان وتأثير في النفس ليس لغيره ، كما أنّ لكلّ من الأغذية تأثيراً في بدن الإنسان ومدخلاً في صلاحه ليس ذلك لغيره ، (كالخبز) - مثلاً - فإنّ له تأثيراً في البدن ليس ذلك للحم ، وكذا اللحم له تأثير في البدن ليس للخبز ، وليس شيء منهما يغني عن الماء ، وهكذا ، ثمّ تلك الأغذية تختلف بحسب شدّة حاجة البدن إليها وضعفها ، فإنّ منها ما لا تبقى الحياة بدونها ، ومنها ما يضعف البدن بدونها لكن تبقى الحياة مع تركها ، فكما أنّ لبدن الإنسان أعضاء رئيسيّة وغير رئيسيّة ، منها : ما لا يبقى الشخص بدونها - كالرأس والقلب والكبد والدماغ - ومنها : ما يبقى بعد فقدها لكن لا ينتفع بالحياة بدونها كالعين والسمع واللسان واليد والرجل ، ومنها : ما ينتفع بدونها بالحياة لكن ناقصة عن درجة الكمال كما إذا فقد بعض الأصابع أو الاُذن أو الأسنان ، فكذلك له أغذية لا تبقى حياته بدونها - كالماء والخبز واللحم - وأغذية تبقى بدونها مع ضعف - كالسمن والاُرز - وأغذية يتروّح بها كالفواكه والحلويّات ، وتعرض له أمراض مهلكة وغير مهلكة ، وخلق اللَّه له أدوية يتداوى بها إذا لم تكن مهلكة ، وكذا له ثياب يتزيّن بها ودوابّ يتقوّى بها وخدم يستعين بهم وأصدقاء يتزيّن بمجالستهم .
فكذا الإيمان بمنزلة شخص له جميع هذه الأشياء : فأعضاؤه الرئيسيّة هي عقائده التي إذا فقد شيء منها يزول رأساً كالاُصول الخمسة ، وأعضاؤه الغير الرئيسيّة هي العقائد والعلوم التي يقوى بها الإيمان ، ويترتّب عليها الآثار على اختلاف مراتبها في ذلك ، فمنها ما يجب الاعتقاد بها ، ومنها ما يحسن ويتزيّن الإيمان بها ، وكذا له أغذية من الأعمال الصالحة ، فمنها : ما لا يبقى بدونها ، وهي الفرائض كالصلاة ، والصوم ، والحجّ ، والزكاة ، ومنها : ما يبقى بدونها مع ضعف شديد تزول ثمرته معه ، وهي سائر الواجبات ، وأمّا النوافل فهي كالفواكه والأشربة والأدوية المقوّية ، ومنها : ما هي بمنزلة الألبسة والحلي ، وله مراكب من الأخلاق الحسنة يتقوّى بها ، وأصدقاء من مرافقة العلماء الصلحاء بهم يتحرّز عن كيد الشياطين ، والذنوب بمنزلة الأمراض المهلكة وغير المهلكة ، فالمهلكة منها هي الكبائر ، وغير المهلكة هي الصغائر والتوبة ، والتضرّع والخشوع أدوية لها إذا لم تصل إلى حدّ لا ينفع فيه الدواء ، والمكروهات بمنزلة الأدواء والعيوب التي لا تؤثر في زواله لكن تحطّ عن درجة كماله .
فإذا عرفت ذلك أمكنك فهم دقائق الأخبار والتوفيق بين الروايات المأثورة في ذلك عن الأئمّة الأبرار، فتعرف معنى قولهم عليهم السلام : الشيء الفلاني رأس الإيمان ، وآخر قلب الإيمان ، وآخر بصر الإيمان ، والصلاة عمود الدين وأشباه ذلك .
فنقول : على هذا التحقيق يمكن أن يقال - مثلاً - الصلاة بمنزلة الماء ، والحجّ بمنزلة الخبز في قوام الإيمان ، فيمكن أن يقال : الصلاة أفضل من حجج كثيرة ، والحجّ أفضل من صلوات كثيرة ؛ إذ لكلّ منهما أثر في قوام الإيمان ليس للآخر ، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، كما يمكن أن يقال : رغيف خبز خير من روايا من الماء ، وشربة ماء خير من أرغفةٍ كثيرة .
والحاصل : أنّه يرجع إلى اختلاف العبادات والجهات والحيثيّات ، فمن جهةٍ الصلاة خير من الحجّ ، ومن جهةٍ اُخرى الحجّ خير من الصلاة وأفضل منها ، وهذا التحقيق ينفعك في كثير من المواضع ويعينك على التوفيق بين كثير من الآيات والأخبار .
وأمّا الإشكال الثاني فينحلّ بكثير من الوجوه السابقة ، واُجيب عنه أيضاً بأنّ المراد : خير من الحجّ بلا صلاة .
واعترض عليه بأنّ الحجّ بلا صلاة باطل لا فضل له حتّى يفضّل عليه الصلاة .
ويمكن الجواب بأنّ المراد به الحجّ مع قطع النظر عن فضل الصلاة إذا كان معها ، لا الحجّ الذي تركت فيه الصلاة۳ .
1.الكافي ، ج ۳ ، ص ۲۶۵ - ۲۶۶ ، باب فضل الصلاة ، ح۷ ؛ من لا يحضره الفقيه ، ج ۱ ، ص ۲۰۹ ، ح۶۳۰ ؛ وج ۲ ، ص ۲۲۱ ، ح۲۲۳۷ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۲ ، ص ۲۳۶ - ۲۳۷ ، ح۴ ؛ وعن الكافي في وسائل الشيعة ، ج ۴ ، ص ۳۹ ، ح۴۴۵۶ ولكن من دون ذكر القسم الثاني من الحديث . نعم ، ورد الحديث بشقّه الثاني في بحار الأنوار ، ج ۷۹ ، ص ۲۲۷ ، ح ۵۵ نقلاً عن الكافي والفقيه والتهذيب .
2.تهذيب الأحكام ، ج ۲ ، ص ۲۴۰ ، ح۲۲ ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج ۴ ، ص ۴۰ ، ح۴۴۶۰ وفيهما : « أفضل » بدل « خير» .
3.ورد هذا الشرح بتمامه في بحار الأنوار ، ج ۷۹ ، ص ۲۲۷ - ۲۳۲ .