( ونحن الأعراف يعرّفنا اللَّه ) بالتشديد ، أي يجعلنا عرفاءه على الصراط .
( لو شاء لعرّف العباد نفسه ) تعليل لقوله عليه السلام : «لا يعرف اللَّه إلّا بسبيل معرفتنا » ، يعني لو شاء لعرّف العباد نفسه كما عرّف الأنبياء نفسه ، ولكنّه لم يشأ ذلك ؛ لعدم قابليّتهم له ، بل جعلنا أبواب معرفته بما يليق به من الحِكم الإلهيّة وأسرار التوحيد ، وجعلنا صراطه في دينه من الشرائع والأخلاق أو السياسات .
وسبيله إلى الجنّة وبيان مقاماتها ودرجاتها ، والوجه الذي يؤتى منه .
( لناكبون ) أي عادلون عن الطريق المستقيم .
( فلا سواء من اعتصم الناس به ) ضمير المجرور راجع إلى «مَن» وإفراده باعتبار لفظه ، وإن كان معناه متعدّداً ، والمقصود نفي المساواة بين جماعة اعتصم الناس بهم وجعلوهم أئمّة أمرٍ في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم وغيرها .
( ولا سواء حيث ذهب الناس ) لا سواء : تأكيد لما سبق ، وحيث : تعليل لنفي المساواة .
( إلى عيون كدرة ) أي غير صافية من الكدر ، خلاف الصفو .
( يفرغ ) صفة لها ، يقال : فرغ الماء ، أي انصبّ ، والمراد بتلك العيون شبهات أئمّة الجور ومخترعاتهم التي أحدثوها وعاونوا بعضهم بعضاً في اختراعها وإحداثها .
( إلى عيون صافية ) متعلّق ب(ذهب) الأوّل ، أي من ذهب إلينا ذهب إلى عيون صافية ، هي النواميس الإلهيّة والأسرار الربّانيّة والأحكام الفرقانيّة التي تجري بأمر ربّها في قلوب صافية تقيّة نقيّة مقدّسة مطهّرة عن الرين ، ثمّ يجري منها إلى قلوب المؤمنين وصدور العارفين إلى يوم الدين .
تذييل [اعتقادنا في الأعراف]
قال الصدوق في الاعتقادات :
اعتقادنا في الأعراف أنّه سور بين الجنّة والنار ، عليه رجال يعرفون كلّاً بسيماهم ، والرجال هم النبيّ وأوصياؤه ؛ لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه ، وعند الأعراف المُرجون لأمره ، إمّا يعذّبهم أو يتوب عليهم۱ .
وقال الشيخ المفيد رحمة اللَّه عليه في تصحيح الاعتقاد :
قد قيل : إنّ الأعراف جبل بين الجنّة والنار ، وقيل أيضاً : سور بين الجنّة والنار ، وجملة الأمر في ذلك : أنّه مكان ليس من الجنّة ولا من النار ، وقد جاء الخبر بما ذكرناه ، وأنّه إذا كان يوم القيامة كان به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وأميرالمؤمنين والأئمّة من ذرّيّته ، وهم الذين عنى اللَّه بقوله : « وَعَلَى الأَْعْرَافِ رِجَالٌ » الآية ، وذلك أنّ اللَّه تعالى يعلّمهم أصحاب الجنّة وأصحاب النار بسيماء يجعلها عليهم ، وهي العلامات ، وقد بيّن ذلك في قوله تعالى : « يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَاهُمْ »۲ ، « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُمْ »۳ ، وقال تعالى : « إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ »۴ ، فأخبر تعالى أنّ في خلقه طائفة يتوسّمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم .
وروي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال في بعض كلامه : « أنا صاحب العصا والميسم » . يعني : علمه بمن علم حاله بالتوسّم .
وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه سُئل عن قوله تعالى : « إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ » قال : « فينا نزلت أهل البيت » ، يعني في الأئمّة .
وقد جاء في الحديث بأنّ اللَّه تعالى ليسكن الأعراف طائفة من الخلق لم يستحقّوا بأعمالهم الجنّة على الثبات من غير عقاب ، ولا استحقّوا الخلود في النار ، وهم المُرجون لأمر اللَّه ، ولهم الشفاعة ، ولا يزالون على الأعراف حتّى يؤذن لهم في دخول الجنّة بشفاعة النبيّ وأميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام من بعده صلى اللَّه عليه وآله .
وقيل أيضاً : إنّه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلّفين فيستحقّون بأعمالهم جنّة وناراً ، فيسكنهم اللَّه تعالى ذلك المكان ، ويعوّضهم على الآلام في الدنيا بنعيم لا يبلغون به منازل أهل الثواب المستحقّين له بالأعمال .
وكلّ ما ذكرنا جائز في العقول ، وقد وردت به أخبار ، واللَّه أعلم بالحقيقة من ذلك ، إلّا أنّ المقطوع به من جملته : أنّ الأعراف مكان بين الجنّة والنار يقف فيه من سمّيناه من حجج اللَّه على خلقه ، ويكون به يوم القيامة قوم مُرجون لأمر اللَّه ، وما بعد ذلك فاللَّه أعلم بالحال فيه۵ . انتهى كلامه رفع مقامه .
أقول : من الأخبار التي أشار إليها ما رواه القمّيّ في تفسيره ، قال : سُئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجنّ يدخلون الجنّة ؟ فقال : « لا ، ولكن للّه حظائر۶ بين الجنّة والنار ، يكون فيها مؤمنوا الجنّ وفسّاق الشيعة »۷ .
وفي البصائر عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى : « وَعَلَى الأَْعْرَافِ رِجَالٌ » قال : « اُنزلت في هذه الاُمّة ، والرجال هم الأئمّة من آل محمّد » . قلت : فما الأعراف ؟ قال : « صراط بين الجنّة والنار ، فمن شفع له الأئمّة منّا من المؤمنين المذنبين نجا ، ومن لم يشفعوا له هوى»۸ .
وعن الصادق عليه السلام في الآية ، قال : « الأئمّة منّا أهل البيت في باب من ياقوت أحمر على سور الجنّة ، يعرّف كلّ إمام منّا ما يليه » . قال رجل : ما معنى ما يليه ؟ قال : « من القرن الذي هو فيه إلى القرن الذي كان»۹ .
1.الاعتقادات ، ص ۷۰ .
2.الأعراف ( ۷ ) : ۴۶ .
3.الرحمن ( ۵۵ ) : ۴۱ .
4.الحجر ( ۱۵ ) : ۷۵ و۷۶ .
5.تصحيح اعتقادات الإمامية ، ص ۱۰۶ - ۱۰۷ .
6.حظائر : جمع حظيرة بمعنى المحيط بالشيء ، سواء كان خشباً أو قصباً . انظر لسان العرب ، ج ۴ ، ص ۲۰۳ ( حظر ) .
7.تفسير القمّي ، ج ۲ ، ص ۳۰۰ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج ۸ ، ص ۳۳۵ ، ح ۱ .
8.بصائر الدرجات ، ص ۴۹۶ ، ح ۵ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج ۸ ، ص ۳۳۵ ، ح ۳ .
9.بصائر الدرجات ، ص ۵۰۰ ، ح ۱۹ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج۸ ، ص ۳۳۵ - ۳۳۶ ، ح ۴ .