فصل [أدلّة القائلين بنفي الشفاعة لمرتكبي الكبائر ومناقشتها]
استدلّ المعتزلة القائلون بنفي الشفاعة بالمعنى الذي ذكرناه ، وبخلود مرتكب الكبيرة ولو مرّة واحدة في النار بوجوه :
منها : قوله تعالى : « وَ اتَّقُواْ يَوْمًا لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًْا وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا هُمْ يُنصَرُونَ »۱ . ووجه الاستدلال من ثلاثة وجوه :
الأوّل : قوله تعالى : « لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًْا » ولو أثّرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد جزت نفس عن نفس شيئاً .
الثاني : « وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ » فإنّه نكرة في سياق النفي فيعمّ .
الثالث : قوله « وَ لَا هُمْ يُنصَرُونَ » إذ الشفاعة ضرب من النصرة .
والجواب - مع قطع النظر عمّا تقدّم من الأخبار في توجيه الآية - من وجهين :
الأوّل : أنّ اليهود كانوا يزعمون أنّ آباءهم يشفعون لهم ، فالآية نزلت فيهم ، فهي مخصوصة بهم .
الثاني : أنّ الآية وإن كان ظاهرها العموم إلّا أنّها مخصّصة بغيرها من الآيات المؤيّدة بالأخبار .
ومنها : العمومات الواردة في وعيد الفسّاق ، والآيات الدالّة على الخلود المتناولة للكافر وغيره كقوله : « وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَلِدًا فِيهَا »۲ ، وليس المراد تعدّي جميع الحدود بارتكاب المعاصي كلّها تركاً وإتياناً ، فإنّه محال ؛ لما بين البعض من التضاد ، كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة ، فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث .
وقوله : « وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا »۳ .
وقوله تعالى : « وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا »۴ ، ومثل هذا مسوق للتأبيد ونفي الخروج .
وقوله تعالى : « وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ »۵وعدم الغيبة عن النار : الخلود فيها .
وقوله تعالى : « بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَطَتْ بِهِ خَطِيَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ »۶ .
وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَ لَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا »۷ .
ومنها : العمومات الدالّة على نفي الشفاعة كقوله تعالى : « مَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لَا شَفِيعٍ يُطَاعُ »۸ ، والظالم : هو الآتي بالظلم ، وهو يعمّ الكافر وغيره .
وقوله تعالى : « مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَعَةٌ »۹ .
وقوله تعالى : « وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ »۱۰ ، ولو كان النبيّ شفيعاً لاُمّته لكان لهم ناصراً .
وقوله تعالى : « وَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى »۱۱ ، والفاسق ليس بمرتضى عند اللَّه وإذا لم تشفع له الملائكة فكذا الأنبياء إذ لا قائل بالفرق .
وقوله : « فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَعَةُ الشَّفِعِينَ »۱۲ .
وقوله تعالى : « وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَ عِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَ اتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ »۱۳ ، ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنًى .
واستدلّوا أيضاً بالأخبار الدالّة على الوعيد ، كقوله صلى اللَّه عليه وآله : « من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب عنها لم يشرب في الآخرة »۱۴ .
وقوله صلى اللَّه عليه وآله : « من قتل نفساً مُعاهدة لم يَرَح رائحة الجنّة۱۵ »۱۶ .
وقوله صلى اللَّه عليه وآله : « الذي يشرب في آنية الذهب والفضّة إنّما يُجرجر في بطنه نار جهنّم »۱۷ . إلى غير ذلك من الأخبار .
والجواب بالمنع من كون هذه الصيغ للعموم ، بدليل صحّة إدخال الكلّ والبعض عليها ، نحو : كلّ من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل داري فله كذا ، ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأنّ الأكثر قد يورد بلفظ الكلّ .
وبعد تسليم كون الصيغ للعموم فاحتمال المخصّصات قائم ، فإنّ العموم غير مراد في الآية الاُولى ؛ للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر ونحو ذلك ، فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين خارجاً بالأدلّة المتقدّمة .
وبالجملة ، فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقاً ، ولو سُلّم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبّد لا الوقوع كما هو المتنازع فيه ؛ لجواز الخروج بالعفو .
ويجاب عن الآية الثانية بأنّ معنى متعمّداً : مستحلاًّ قتله على ما ذكره جملة من المفسّرين ، والتعمّد على الحقيقة إنّما يكون من المستحلّ أو بأنّ التعليق بالوصف مشعر بالعلّيّة ، فيختصّ بمن قتل مؤمناً لأجل إيمانه ، أو بأنّ الخلود وإن كان ظاهراً في الدوام إلّا أنّ المراد به هنا المكث الطويل ؛ جمعاً بين الأدلّة .
ويجاب عن الآية الثالثة بأنّها في حقّ الكفّار المنكرين للحشر ، بقرينة قوله : « ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ »۱۸ مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة ؛ لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول أو نحو ذلك .
وعن الرابعة - بعد تسليم إفادتها النفي عن كلّ فرد ، ودلالتها على دوام عدم الغيبة - أنّها تختصّ بالكفّار ؛ جمعاً بين الأدلّة .
وكذا الخامسة والسادسة حملاً للحدود على حدود الإسلام ، وحملاً لإحاطة الخطيئة على غلبتها بحيث لا يبقى معها الإيمان ، هذا مع ما في الخلود من الاحتمال المتقدّم .
و على هذا القياس الجواب عن سائر أدلّتهم النقليّة .
واستدلّوا أيضاً بأدلّة عقليّة على ثبوت مذهبهم :
منها : أنّ الفاسق لو دخل الجنّة لكان باستحقاق ؛ لمنع دخول غير المستحقّ كالكافر ، واللازم منتف ؛ لبطلان الاستحقاق بالإحباط والموازنة .
والجواب بمنع المقدّمتين وبطلان الإحباط والموازنة .
ومنها : أنّه لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر قياساً عليه بجامع تناهي المعصية .
والجواب - على تقدير علّيّة التناهي - بمنع تناهي الكفر قدراً ، ومنع اعتبار القياس فيمقابلة النصّ في الاعتقادات .
ومنها : أنّ الوعيد بالعقاب الدائم لطف بالعباد ؛ لكونه أشدّ زجراً عن المعاصي ، فإنّ منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذّات .
ومنها : أنّه لابدّ من تحقيق الوعيد ؛ تصديقاً للخبر وصوناً للقول عن التبديل .
والجواب : منع انحصار اللطف في وعيد الدوام ، فإنّ من لم يكترث باللبث في الجحيم أحقاباً لا يستكثر الخلود فيها عقاباً ، وإذ قد كان كلّ وعيد لطفاً ، ولا شيء من الوعيد لطفاً للكلّ ، فليكن لطف الخلود في النار مختصّاً بالكفّار ، وكفى بوعيد النيران ، بل وعد الجنان لطفاً زاجراً لأهل الإيمان .
1.البقرة ( ۲ ) : ۴۸ .
2.النساء ( ۴ ) : ۱۴ .
3.النساء ( ۴ ) : ۹۳ .
4.السجدة ( ۳۲ ) : ۲۰ .
5.. الانفطار ( ۸۲ ) : ۱۴ - ۱۶ .
6.البقرة ( ۲ ) : ۸۱ .
7.النساء ( ۴ ) : ۱۰ .
8.غافر ( ۴۰ ) : ۱۸ .
9.البقرة ( ۲ ) : ۲۵۴ .
10.البقرة ( ۲ ) : ۲۷۰ .
11.الأنبياء ( ۲۱ ) : ۲۸ .
12.المدّثّر ( ۷۴ ) : ۴۸ .
13.غافر( ۴۰ ) : ۷ .
14.انظر : صحيح مسلم ، ج ۶ ، ص ۱۰۰ ؛ سنن الترمذي ، ج ۳ ، ص ۱۹۲ ، ح ۱۹۲۳ ؛ سنن النسائي ، ج ۸ ، ص ۳۱۸ مع تفاوت في الجميع .
15.أي لم يشمّ ريحها ، يقال : راح يريح ، إذا وجد رائحة الشيء . انظر : النهاية لابن الأثير ، ج ۲ ، ص ۲۷۲ ( روح ) .
16.انظر : مسند أحمد ، ج ۵ ، ص ۳۶۹ ؛ صحيح البخاري ، ج ۴ ، ص ۶۵ ؛ سنن ابن ماجة ، ج ۲ ، ص ۸۹۶ ، ح ۲۶۸۶ و ۲۶۸۷ .
17.انظر : عوالياللآلي ، ج۲ ، ص۲۱۰ ، ح۱۳۸ ؛ بحارالأنوار ، ج۷ ، ص۲۲۹ ؛ السنن الكبرى ، ج۴ ، ص۱۴۵ .