191
میراث مکتوب رضوی

إبداعِهِ لَها مَعنىً غَيرَ أنفُسِها يَتَناهى و لا وُجودَ؛ لِأنَّها مُبدَعَةٌ بِالإبداعٍ، و النّورُ في هَذا المَوضِعِ أوَّلُ فِعلِ اللهِ الَّذي هوَ نورُ السَّماواتِ و الأرضِ،‏ و الحُروفُ هيَ المَفعولُ بِذَلِكَ الفِعلِ، و هيَ الحُروفُ الَّتي عَلَيها الكَلامُ و العِباراتُ كُلُّها مِنَ اللهِ عزّ و جلّ عَلَمَّها خَلقَهُ، و هيَ ثَلاثَةٌ و ثَلاثونَ حَرفاً، فَمِنها ثَمانيَةٌ و عِشرونَ حَرفاً تَدُلُّ عَلى اللُّغاتِ العَرَبِيَّةِ، و مِنَ الثَّمانيَةِ و العِشرينَ اثنانِ و عِشرونَ حَرفاً تَدُلُّ عَلى اللُّغاتِ السِّريانيَّةِ و العِبرانيَّةِ، و مِنها خَمسَةُ أحرُفٍ مُتَحَرِّفَةٍ في سائِرِ اللُّغاتِ مِنَ العَجَمِ لِأقاليمِ اللُّغاتِ كُلِّها، و هيَ خَمسَةُ أحرُفٍ تَحَرَّفَت مِنَ الثّمانيَةِ و العِشرينَ الحَرفَ مِنَ اللُّغاتِ،‏ فَصارَت الحُروفُ ثَلاثَةً و ثَلاثينَ حَرفاً، فَأمّا الخَمسَةُ المُختَلِفَةُ فَبِحُجَجٍ‏ لا يَجوزُ ذِكرُها أكثَرَ مِمّا ذَكَرناهُ، ثُمَّ جَعَلَ الحُروفَ بَعدَ إحصائِها و إحكامِ عِدَّتِها فِعلاً مِنهُ، كَقولِهِ عزّ و جلّ: (‌كُن فَيَكُونُ)، و كُن مِنهُ صِنعٌ، و ما يَكونُ بِهِ المَصنوعُ فَالخَلقُ الأوَّلُ مِنَ اللّهِ عزّ و جلّ الإبداعُ، لا وَزن لَهُ و لا حَرَكَةَ و لا سَمعَ و لا لَونَ و لا حِسَّ، و الخَلقُ الثّاني الحُروفُ، لا وَزن لَها و لا لَونَ، و هيَ مَسموعَةٌ مَوصوفَةٌ غَيرُ مَنظورٍ إلَيها، و الخَلقُ الثّالِثُ ما كانَ مِنَ الأنواعِ كُلِّها مَحسوساً مَلموساً ذا ذَوقٍ مَنظوراً إلَيهِ، و اللّهُ تَبارَكَ و تَعالى سابِقٌ لِلإبداعِ؛ لِأنَّهُ لَيسَ قَبَلَهُ عزّ و جلّ شَي‏ءٌ و لا كانَ مَعَهُ شَي‏ءٌ، و الإبداعُ سابِقٌ لِلحُروفِ، و الحُروفُ لا تَدُلُّ عَلى غَيرِ أنفُسِها.

قالَ المأمونُ: و كَيفَ لا تَدُلُّ عَلى غَيرِ أنفُسِها؟ قالَ الرِّضا علیه السلام: لِأنَّ اللّهَ تَبارَكَ و تَعالى لا يَجمَعُ مِنها شَيئاً لِغَيِر مَعنىً أبَداً، فَإذا ألَّفَ مِنها أحرُفاً أربَعَةً أو خَمسَةً أو سِتَّةً أو أكثَرَ مِن ذَلِكَ أو أقَلَّ، لَم يُؤَلِّفها لِغَيرِ مَعنىً، و لَم يَكُ إلّا لِمَعنىً مُحدَثٍ لَم يَكُن قَبلَ ذَلِكَ شَيئاً. قالَ: عِمرانُ: فَكَيفَ لَنا بِمَعرِفَةِ ذَلِكَ؟ قالَ الرِّضا علیه السلام:‏ أمّا المَعرِفَةُ فَوَجهُ ذَلِكَ و بابُهُ أنَّكَ تَذكُرُ الحُروفَ‏ إذا لَم تُرِد بِها غَيرَ أنفُسِها ذَكَرتَها فَرداً فَقُلتُ: أ ب ت ث ج، ح خ، حَتّى تَأتيَ عَلى آخِرِها، فَلَم تَجِد لَها مَعنىً غَيرَ أنفُسِها، فَإذا ألَّفتَها و جَمَعتَ مِنها أحرُفاً و جَعَلتَها اسماً و صِفَةً لِمَعنى ما طَلَبتَ و وَجهِ ما عَنَيتَ كانَت دَليلَةً عَلى مَعانيها داعيَةً إلى المَوصوفِ بِها، أ فَهِمتَهُ؟ قالَ: نَعَم، قالَ الرِّضا علیه السلام: و اعلَم أنَّهُ لا يَكونُ صِفَةٌ لِغَيرِ مَوصوفٍ و لا اسمٌ لِغَيرِ مَعنىً و لا حَدٌّ لِغَيرِ مَحدودٍ، و الصِّفاتُ و الأسماءُ كُلُّها


میراث مکتوب رضوی
190

أو هَل تَجِدُ الحَرارَةَ تُحرِقُ نَفسَها؟ أو هَل رَأيتَ بَصيراً قَطُّ رَأَى بَصَرَهُ؟‏ قالَ عِمرانُ: لَم أرَ هَذا، أ لا تُخبِرُني يا سَيِّدي، أ هوَ في الخَلقِ أُمِ الخَلقُ فِيهِ؟ قالَ الرِّضا علیه السلام: جَلَّ يا عِمرانُ عن ذَلِكَ، لَيسَ هوَ في الخَلقِ و لا الخَلقُ فِيهِ، تَعالى عن ذَلِكَ، و سَأُعَلِّمُكَ ما تَعرِفُهُ بِهِ، و لا حَولَ و لا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ؛ أخبِرني، عن المِرآةِ، أنتَ فيها أُم هيَ فيكَ؟ فَإن كانَ لَيسَ واحِدٌ مِنكُما في صاحِبِهِ، فَبِأيِّ شَي‏ءٍ استَدلَلتَ بِها عَلى نَفسِكَ؟ قالَ عِمرانُ: بِضَوءٍ بَيني و بَينَها، فَقالَ الرِّضا علیه السلام: هَل تَرى مِن ذَلِكَ الضَّوِء في المِرآةِ أكثَرَ مِمّا تَراهُ في عَينِكَ؟ قالَ: نَعَم، قالَ الرِّضا علیه السلام: فَأرِناهُ. فَلَم يُحِر جَواباً. قالَ الرِّضا علیه السلام: فَلا أرى النّورَ إلّا و قَد دَلَّكَ و دَلَّ المِرآةَ عَلى أنفُسِكُما مِن غَيرِ أن يَكونَ في واحِدٍ مِنكُما، و لِهَذا أمثالٌ كَثيرَةٌ غَيرُ هَذا، لا يَجِدُ الجاهِلُ فيها مَقالاً (. لله المثل الأعلى‏). ثُمَّ التَفَتَ علیه السلام إلى المَأمونِ فَقالَ: الصَّلاةُ قَد حَضَرَت، فَقالَ عِمرانُ: يا سَيِّدي، لا تَقطَع عَلَيَّ مَسألَتي فَقَد رَقَّ قَلبي، قالَ الرِّضا علیه السلام: نُصَلّي و نَعودُ.

فَنَهَضَ و نَهَضَ المَأمونُ، فَصَلّى الرِّضا علیه السلام داخِلاً و صَلّى النّاسُ خارِجاً خَلفَ مُحَمَّدِ بنِ جَعفَرٍ، ثُمَّ خَرَجا، فَعادَ الرِّضا علیه السلام إلى مَجلِسِهِ و دَعا بِعِمرانَ، فَقالَ: سَل يا عِمرانُ، قالَ: يا سَيِّدي، أ لا تُخبِرُني عن اللّهِ عزّ و جلّ، هَل يُوَحَّدُ بِحَقيقَةٍ، أو يُوَحَّدُ بِوَصفٍ؟‏ قالَ الرِّضا علیه السلام: إنَّ اللّهَ المُبدِئَ الواحِدَ الكائِنَ الأوَّلَ، لَم يَزَل واحِداً لا شَي‏ءَ مَعَهُ، فَرداً لا ثانيَ مَعَهُ، لا مَعلوماً و لا مَجهولاً، و لا مُحكَماً و لا مُتَشابِهاً، و لا مَذكوراً و لا مَنسيّاً، و لا شَيئاً يَقَعُ عَلَيهِ اسمُ شَي‏ءٍ مِنَ الأشياءِ غَيرَهُ، و لا مِن وَقتٍ كانَ و لا إلى وَقتٍ يَكونُ، و لا بِشَي‏ءٍ قامَ و لا إلى شَي‏ءٍ يَقومُ، و لا إلى شَي‏ءٍ استَنَدَ و لا في شَي‏ءٍ استَكَنَّ، و ذَلِكَ كُلُّهُ قَبلَ الخَلقِ، إذ لا شَي‏ءَ غَيرُهُ،‏ و ما أوقِعَت عَلَيهِ مِنَ الكُلِّ فَهيَ صِفاتٌ مُحدَثَةٌ و تَرجَمَةٌ يَفهَمُ بِها مَن فَهِمَ‏.

و اعلَم أن الإبداعَ و المَشيَّةَ و الإرادَةَ مَعناها واحِدٌ و أسماءَها ثَلاثَةٌ، و كانَ أوَّلُ إبداعِهِ و إرادَتِهِ و مَشيَّتِهِ الحُروفَ الَّتي جَعَلَها أصلاً لِكُلِّ شَي‏ءٍ و دَليلاً عَلى كُلِّ مُدرَكٍ و فاصِلاً لِكُلِّ مُشكِلٍ، و تِلكَ الحُروفُ تَفريقُ كُلِّ شَي‏ءٍ مِن اسمِ حَقٍّ و باطِلٍ أو فِعلٍ أو مَفعولٍ أو مَعنىً أو غَيرِ مَعنىً، و عَلَيها اجتَمَعَتِ الأُمورُ كُلُّها و لَم يَجعَل لِلحُروفِ في

  • نام منبع :
    میراث مکتوب رضوی
    سایر پدیدآورندگان :
    سیدمصطفی مطهری و رضا یاری نیا
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1395
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 9228
صفحه از 212
پرینت  ارسال به