عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى يبل طعامه من دموعه، ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتّى لحق باللّه عز و جل.
وحدّث مولى له عليهالسلام أنّه برز إلى الصحراء يوماً، قال: فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرّة يقول: لا إله إلاّ اللّه حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ اللّه تعبّداً ورقّا، لا إله إلاّ اللّه إيماناً وصدقاً.
ثمّ رفع رأسه من سجوده، وأنّ لحيته ووجهه قد غُمِرا من الدموع، فقلت: يا مولاي، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ ولبكائك أن يقلّ؟
فقال لي: ويحك، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: كان نبيّاً ابن نبيّ ابن نبيّ له اثنا عشر ابناً، فغيّب اللّه سبحانه واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ والهمّ، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيّ في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟!.
وها أنا أتمثّل وأشير إليهم صلوات اللّه وسلامه عليهم، فأقول:
مَن مخبرُ الملبسينا بانتزاحهم
ثَوباً مِن الحُزنِ لا يَبلى ويَبلينا
إنّ الزمانَ الذي قَد كانَ يُضحِكُنا
بِقُربِهِم صارَ بالتَفريقِ يُبكينا
حالَت لِفقدانِهِم أيّامُنا فَغَدَت
سوداً وَكانَت بِهِم بيضاً لَيالينا
وهاهنا منتهى ما أردناه وآخر ما قصدناه، ومن وقف على ترتيبه ورسمه، مع اختصاره وصغر حجمه، عرف تمييزه على أبناء جنسه، وفهم فضيلته في نفسه.
والحمد للّه ربّ العالمين، وصلاته وسلامه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.