أمّا بعد؛ فإنّني أقبلت من المدينة مع دليلين لي فجارا عن الطريق فضلاّ، واشتدّ علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء، فلم نَنْجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت، وقد تطيّرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام.
فكتب إليه الحسين بن عليّ عليهماالسلام:
أمّا بعد؛ فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن، فامض لوجهك الذي وجّهتك له، والسلام.
فلمّا قرأ مسلم الكتاب قال: أمّا هذا فلست أتخوّفه على نفسي. فأقبل حتّى مرّ بماء لطئ فنزل به، ثمّ ارتحل منه، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إليه قد رمى ظبياً ۲ / ۴۱
حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم: نقتل عدوّنا إن شاء اللّه.
ثمّ أقبل حتّى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد، وهي التي تدعى اليوم دار سلم بن المسيّب. وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين بن عليّ عليهماالسلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً. فكتب مسلم رحمهالله إلى الحسين عليهالسلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم.
وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رضىاللهعنه حتّى علم مكانه، فبلغ النعمان بن بشير ذلك ـ وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها ـ فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
أمّا بعد، فاتّقوا اللّه ـ عباد اللّه ـ ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغتصب الأموال، إنّي لا اُقاتل مَن لا يقاتلني، ولا آتي على مَن لم يأتِ عليَّ، ولا اُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف۱ ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه الذي لا إله غيره، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل.