فبقي هود في قومه يدعوهم إلى اللَّه، وينهاهم عن عبادة الأصنام حتّى خصبت بلادهم، وأنزل اللَّه عليهم المطر، وهو قوله عزّ وجلّ: «ويَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» فقالوا - كما حكى اللَّه - : «قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» إلى آخر الآية، فلمّا لم يؤمنوا أرسل اللَّه عليهم الريح الصرصر، يعني: الباردة، وهو قوله في سورة اقتربت ۱ : «كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» ۲.
وحكى في سورة الحاقّة، فقال: «وَأمّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» ۳، وكانت الأحقاف بلادهم.
وقوله: «فِى أيَّامٍ نَحِسَاتٍ» ۴، قال: «كان القمر منحوساً بزحل سبع ليال وثمانية أيّام» ، وقيل: «هو آخر أربعاء في الشهر». ۵
وقوله: «كان القمر منحوساً بزحل» صريح في أنّ الكواكب لها تأثير في العالم، لكن بتقدير العزيز العليم.
[ ۶۱ - ۶۷ ] وأمّا قوله: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً»...الآية، عن الصادق عليه السلام: «إنّ اللَّه - تبارك وتعالى - بعث صالحا إلى ثمود وهو ابن ستّ عشرة سنة».
أقول: قوله: ابن ستّ عشر سنة، هذا يكذّب من ادّعى أنّ الأنبياء ما نبّئ الواحد منهم إلّا بعد الأربعين؛ فإنّ عيسى نبّئ في المهد، وموسى بعد الثمانين.
فلبث فيهم حتّى بلغ مائة وعشرين سنة، لا يجيبوه إلى خير، وكان لهم سبعون صنماً يعبدونها من دون اللَّه ۶ ، فبعث اللَّه عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا، وهو قوله: فَأَخَذَتْهُمُ
1.في البرهان: «سورة القمر».
2.القمر (۵۴): ۱۸ - ۱۹.
3.الحاقّة (۶۹): ۶ - ۷.
4.فصّلت (۴۱): ۱۶.
5.رواه البحراني في البرهان، ج ۳، ص ۱۱۵، عن تفسير القمّي.
6.في الأصل زيادة: «فلمّا رأى ذلك منهم قال لهم: يا قوم بعثت إليكم وأنا ابن ستّ عشرة سنة، وقد بلغت عشرين ومائة سنة، وأنا أعرض عليكم أمرين: إن شئتم فاسألوني مهما أردتم حتّى أسأل إلهي فيجيبكم، وإن شئتم سألت آلهتكم؛ فإن أجابتني خرجت عنكم، فقالوا: أنصفت، فأمهلنا. فأقبلوا يتعبّدون ثلاثة أيّام ويتمسّحون بالأصنام ويذبحون لها، وأخرجوها إلى سفح الجبل، وأقبلوا يتضرّعون إليها، فلمّا كان اليوم الثالث قال لهم صالح عليه السلام: قد طال هذا الأمر، فقالوا له: سل من شئت، فدنا إلى أكبر صنم لهم، فقال: ما اسمك ؟ فلم يجبه، فقال لهم: ما له لا يجيبني ؟ قالوا له: تنحّ عنه، فتنحّى عنه، وأقبلوا إليه، ووضعوا على رؤوسهم التراب، وضجّوا وقالوا: فضحتنا ونكست رؤوسنا، وقال صالح: قد ذهب النهار، فقالوا: سله، فدنا منه فكلّمه، فلم يجبه، فبكوا وتضرّعوا، حتّى فعلوا ذلك ثلاث مرّات، فلم يجبهم بشيء، فقالوا: إنّ هذا لا يجيبك، ولكنا نسأل إلهك، فقال لهم: سلوا ما شئتم، فقالوا: سله أن يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء شقراء عشراء - أي: حاملة - تضرب بمنكبيها طرفي الجبلين، وتلقى فصيلها من ساعتها، وتدرّ لبنها. فقال صالح: إنّ الذي سألتموني عندي عظيم وعند اللَّه هيّن، فقام وصلّى ركعتين، ثمّ سجد وتضرّع إلى اللَّه، فما رفع رأسه حتّى تصدّع الجبل، وسمعوا له دويَاً شديداً (أي صوتاً شديداً) فزعوا منه، وكادوا أن يموتوا منه، فطلع رأس الناقة وهي تجترّ، فلمّا خرجت ألقت فصيلها، ودرّت لبنها. فبهتوا وقالوا: قد علمنا يا صالح أنّ ربّك أعزّ وأقدر من آلهتنا التي نعبدها. وكان لقريتهم ماء، وهي الحجر التي ذكرها اللَّه تعالى في كتابه، وهو قوله: «كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ» (الحجر (۱۵): ۸۰)، وقد تقدّم بعض الحديث عن هذا الماء، عند نقل قصّة أبي ذرّ، في تفسير الآية (۴۲) من سورة التوبة (۹)، فراجع.) فقال لهم صالح: لهذه الناقة شرب، أي تشرب ماءكم يوماً وتدرّ لبنها عليكم يوماً، وهو قوله عزّ وجلّ: «لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (الشعراء (۲۶): ۱۵۵ - ۱۵۶)، فكانت تشرب ماءهم يوماً، وإذا كان من الغد وقفت وسط قريتهم، فلا يبقى في القرية أحد إلّا حلب منها حاجته، وكان فيهم تسعة من رؤسائهم كما ذكر اللَّه في سورة النمل: «وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ» (النمل (۲۷): ۴۸)، فعقروا الناقة ورموها حتّى قتلوها، وقتلوا الفصيل، فلمّا عقروا الناقة قالوا لصالح: «فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنْتَ مِنَ الْصَّادِقِينَ» (الأعراف (۷): ۷۰) ووردت العبارة في النسخ هكذا: «إن كنت من المرسلين»، قال صالح: «تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»، ثمّ قال لهم: وعلامة هلاككم أنّه تبيضّ وجوهكم غداً، وتحمرّ بعد غد، وتسودّ في اليوم الثالث، فلمّا كان من الغد نظروا إلى وجوههم وقد ابيضّت مثل القطن، فلمّا كان اليوم الثاني احمرّت مثل الدم، فلمّا كان اليوم الثالث اسودّت وجوههم.